19 ديسمبر، 2024 12:45 ص

من القليل الذي تسرب من جلسات سرية وراء الكواليس بين الأطراف المتشاكسة في العراق تبين أن العقدة ليس لها حل سهل وقريب، وأن  صيغةَ التوافقٍ التي انهمكت إيران بطبخها، منذ نهاية الانتخابات الأخيرة، بعيدا عن الأنظار، لن تكتمل ولن ترى النور، خصوصا بعد أن أبطل مقتدى الصدر، وهو الفائز الأكبر في الانتخابات، جميع التكهنات حين أعلن قرارَه النهائي المصيري، خلال لقائه الأخير بمجموعة من الفائزين المستقلين، بأنه “لن يقبل هذه المرة بخلطة العطار، فإما حكومة أغلبية وطنية أو معارضة وطنية”، مؤكدا عدم استعداده لقبول أي تدخل خارجي في شؤونه، أو في شؤون الدولة العراقية وأهلها.

فلو صدَق وثبَت على نهجه الوطني المستقل فسوف يصبح مشكلة حقيقية وجادة لإيران، ورجل الإنقاذ الوطني الذي تنتظره ملايينُ العراقيين.

والعقدة الآن تكمن في أن إيران لا تسمح لوكلائها  بالاستسلام والموافقة على منح مقتدى، بطبعته الجديدة، قيادة الحكومة التوافقية القادمة، وبالصلاحية الكاملة التي تمكنه من تنفيذ وعوده التصحيحية الثورية الانقلابية، وفي مقدمتها محاسبة الفاسدين، والمتهمين بالخيانة، وسحب سلاح المليشيات.

فهي تعلم بأن تسلم مقتدى مقاليد السلطة، منفردا، يعني حقبة شاقة وطويلة معبأة بالمشاكل لنفوذها ومصالحها، دون ريب. كما أن انتقاله إلى المعارضة خيارٌ مُزعج وفاضح وضار أكثر من الخيار الآخر، لأنه، في هذه الحالة، سوف يُعطل السياسات والقرارات التي تحتاج إليها، وسيمنع وكلاءها من استعادة أمجادهم السابقة وحريتَهم في التصرف بشؤون البلاد والعباد.

وحتى الخيار الثالث الذي فكرت فيه (فصائل) مسلحة، والمتمثل باغتياله أو افتعال حرب شوارع مع تياره لتصفيته محفوفٌ، هو الآخر، بمخاطر أكبر، خصوصا بعد التعاطف الشعبي والدولي الذي حصل عليه بخطاباته الاستقلالية الأخيرة، وهو ما لا تريده إيران.

ولكنه، بنهجه الجديد المتشدد المُصر على عدم القبول بالتوافق وتقاسم الكعكعة، قد وضع الفائزيْن الآخريْن، الحزب الديمقراطي الكردستاني وتجمع محمد الحلبوسي، في حرج مرارتُه أكبر من مرارة حرج خصومه الولائيين.

فضم مقاعد الحلبوسي الـ (34) إلى مقاعد التيار الصدري الـ (73) يمكن تحقيقه بمنحه رئاسة البرلمان وبعض الوزارات، ولكن بعد موافقة إيران والدولة العربية التي تقف وراءه، وهو الشيء الأقرب إلى المستحيل.

كما أن ضم مقاعد حزب مسعود البارزاني الـ (32) لضمان تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية التي يبشر بها مقتدى أصعب وأكثر كلفةً من مسألة الحلبوسي.

فمسعود البارزاني ينتظر موافقة إيران أولا، وأمريكا ثانيا، وتركيا ثالثا، ثم تبدأ، بعد ذلك، سلسلة مَطالبه التعجيزية الأخرى التي لا تتفق ورفضَ مقتدى لمبدأ (تقاسم الكعكة)، وأولها رئاسة الجمهورية العراقية، ووزاراتٌ سيادية، منها وزارة الخارجية أو المالية، ثم وزارات ومواقع عديدة مهمة أخرى في الجيش والحكومة، ورواتب البيش مرقة، ورواتب الموظفين، والمناطق المختلف عليها. 

وبموجب التوافق السابق بين الشركاء في نظام المحاصصة الذي لن يتخلى عنه السياسيون الكرد لابد أن تكون رئاسة الجمهورية من حصة المكون الكردي.

ولكن هل سيوافق مقتدى على رئيس جمهورية كردي متهم بالفساد، أو له سجل غير مشرّف في العقيدة الانفصالية، وفي التعالي على باقي مكونات الشعب العراقي، حتى لو كان الثمن اصطفاف كتلة البارزاني النيابية مع كتلته في مواجهة المعسكر الإيراني؟.

ومعروف أن الحزب الديمقراطي الكردستاني لا يملك مرشحا لرئاسة الجمهورية سوى أربعةٍ، ولكن على كل واحد منهم مآخذ وملفات وحوادث لا تؤهله لمثل هذا المنصب الرفيع.

ولمن لا يعرف نذكر بأن الأول هو خال رئيس الحزب، مسعود البارزاني، وقد عُين، بموجب نظام المحاصصة، وزيرا للخارجية، ثم وزيرا للمالية، ثم صوت مجلس النواب العراقي في 21 سبتمبر/أيلول 2016 بأغلبية 249 نائبا على سحب الثقة منه، بعد استجوابه حول تهم فساد، وتمَّ طرده منها.

والثاني سأله صحفي أجنبي في منتدى الشرق الأوسط للسلام والأمن، في البحرين، قبل أيام: هل أنت عراقي أم كردي، فأجاب بحزم وأنفة وكبرياء:

“أنا كردي. للعراق هوية على الخريطة وحدود جغرافية، ولكن في النهاية كيان مصطنع. قبل 100 عام خُلق هذا الكيان تحت اسم العراق، واضطُررت للعيش فيه”.

والثالث قضى ما يقرب من ثماني عشرة سنة سكرتيراً لرئيس الإقليم، وبقي، حتى وهو وزير مالية ثم وزير خارجية، مقيدا بثياب السكرتير. ألم ترَه يسير وراء مسرور البارزاني، كواحدٍ من مرافقيه في مؤتمر البحرين الأخير؟.

أما الرابع، فبالإضافة إلى أن المعروف عنه أنه شديد التعصب القومي الانفصالي، فهو يحتاج إلى مترجم من الكردية أو من الإنكليزية إلى العربية عند اضطراره لإلقاء خطاب في مؤتمر قمة عربي، أو عند استقباله ملكا أو رئيسا أو أميرا لا يتكلم الانكليزية ولا الكردية، وتلك فضيحة.

هذا إذا لم ندخل في تفاصيل أخرى تتعلق بثقافة المرشحين الأربعة، وعلاقتهم بالنزاهة، وبعدم استغلال النفوذ.

ولنفرض، جدلا، أن الأمل الصعب قد تحقق، واجتمع البرلمان الجديد، ثم عجز مقتدى عن تحرير رئاسة جمهورية العراق من قيود نظام المحاصصة الطائفية والعنصرية، ولم يجد مرشحا كرديا يليق بمنصب رئيس الجمهورية، ولم يتمكن، في الوقت نفسه، من إعادة