22 ديسمبر، 2024 7:48 م

فجوة فلكيّة.. بيروت وبغداد!

فجوة فلكيّة.. بيروت وبغداد!

يحدث في بلد من بلدان العالم أن يشتكي رئيس الدولة على إعلامي في قضية نشر، فيهبّ وزراء ونواب وسياسيون آخرون إلى جانب الإعلاميين للاعتصام احتجاجاً على فعلة رئيس الدولة المناهضة لحرية التعبير المكفولة في هذه الدولة.
ويحدث في بلد آخر أن يتحدّث نواب عن صفقة فاسدة يستقيل بموجبها عضو في البرلمان ليعطي مقعده إلى شخص متّهم بالفساد، فينشر الإعلاميون تصريحات النواب في هذا الشأن ويعلّقون عليها، ويُعلن رئيس مجلس النواب من جانبه.. نعم رئيس البرلمان ما غيره، عن “تشكيل لجنة للتحقيق في ما ورد من اتهامات وقدح عبر وسائل الإعلام” بخصوص عملية استبدال النائب المستقيل، في تهديد واضح من رئيس أعلى سلطة في البلاد للإعلاميين الذين تناولوا القضية!
لبنان هو البلد الأول، أما البلد الثاني فالعراق، ما غيره.. بلد العجائب والغرائب، وهذه واحدة من عجائبه وغرائبه في زمن الخراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي الجاري الآن.
في لبنان استضاف الإعلامي مارسيل غانم في برنامجه التلفزيوني “كلام الناس” على محطة “المؤسسة اللبنانية للإرسال” محلّلينِ سياسيّينِ اثنين انتقدا أداء الرئيس ميشال عون وبعض المسؤولين اللبنانيين، فانتفض الجنرال من مقعده الرئاسي الذي وُضع فيه بموجب صفقة فساد سياسي، وتقدّم بشكوى ضدّ الإعلامي الذي لم يكن له دور غير توجيه الأسئلة وإدارة البرنامج الحواري.
“انتفاضة” عون واجهتها انتفاضة دفاعاً عن حرية التعبير والحريات الإعلامية، لم تقتصر على زملاء غانم في المهنة الذين تجمّعوا عند قصر العدل في بعبدا قريباً من القصر الرئاسي ساعة مثول غانم أمام قاضي التحقيق. كان هناك أيضاً نواب ووزراء، بينهم وزير الإعلام ملحم الرياشي ووزير التربية والتعليم العالي مروان حمادة، والنواب: غازي العريضي، نبيل دو فريج، سامي الجميل، نديم الجميل، النائب السابق فارس سعيد وشخصيات سياسية ونقابية، فيما تولّى الدفاع عن الإعلامي غانم النائب الحالي والوزير السابق بطرس حرب.
في المقابل عندنا، في العراق، تحدّث عدد من أعضاء مجلس النواب في بيانات وتصريحات عمّا وصفوها صفقة فاسدة بين النائب مطشر السامرائي وشخص لم يفز في انتخابات 2014، يتنازل بموجبها النائب إلى هذا الشخص عن مقعده النيابي مقابل مبلغ من المال، وبعض النواب اتّهم صراحة رئيس مجلس النواب سليم الجبوري برعاية الصفقة.
النواب الذين كشفوا عن ذلك في بياناتهم وتصريحاتهم كانوا يحتجّون على الصفقة بوصفها صفقة فساد في وقت تتعهد الحكومة بشنّ حرب ضارية ضد الفساد شبيهة بالحرب على الإرهاب. وكانوا أيضاً يعترضون على أنّ “النائب” البديل سبق أن ورد اسمه في تحقيقات أجراها مجلس النواب بشأن عمليات فساد في وزارة التربية، ويعترضون كذلك لجهة أن عمر مجلس النواب الحالي لم يبقَ منه غير بضعة أشهر، وسيكون من حقّ “النائب” البديل أن يتمتّع عن هذه الأشهر بكلّ الامتيازات الممنوحة لعضو البرلمان، من حصانة وراتب تقاعدي كبير وغيرهما.
بشأن هذه القضية، لم يقم الإعلاميون العراقيون سوى بواجبهم المهني والوطني بنشر بيانات وتصريحات النواب والتعليق عليها وشجب الصفقة المُفترضة.
رئيس مجلس النواب استغلّ جلسة المجلس يوم الخميس للدفاع عن الصفقة المُفترضة، بل إنه بعث برسالة تهديد الى الإعلاميين بإعلانه عن تشكيل لجنة تحقيقية.فجوة حضارية ومدنية فلكية بين الطبقتين السياسيتين في لبنان والعراق، يجسّدها موقف رئيس برلماننا حيال الإعلام في مقابل موقف النواب والوزراء والسياسيين اللبنانيين.
ما يتعيّن أن يعرفه السيد الجبوري أنه سواءً مرّر الصفقة المفترضة أم لم يمرّرها، وشكّل اللجنة التحقيقية أم لم يشكّلها، وترتّب على هذا أم لم يترتّب تقديم شكاوى ضد إعلاميين، ووقف نواب ووزراء تضامناً مع الإعلاميين المُشتكى عليهم ودفاعاً عن حرية التعبير أم لم يقفوا، فإن الأمر كلّه لن يغيّر شيئاً في نظرة الإعلاميين الوطنيين العراقيين وعموم الرأي العام العراقي إلى الطبقة السياسية الحاكمة كلها، بقضّها وقضيضها، بوصفها طبقة فاسدة إلى النخاع، وليس متوقعاً في النهاية من طبقة سياسية كهذه إلا المزيد من الفساد.