يوم عزاء، وقصة فداء، وعهد ولاء تقرباً للباريء، قدم فيه قربان ما بعده قربان، ألا وهو دم الغريب، وأهل بيته الأبرار، وكأن القرآن ذكر يوم لقائه الموعود بربه لأمر مشهود، فذكر فجر الليال العشر، التي أناخت برحلها لسيد الشهداء، وأبي الاحرار، الوتر الموتور، الإمام الحسين (عليه السلام)، في واقعة كربلاء الأليمة، التي لم تجرِ على أحد من الأنبياء، والمرسلين، والأولياء، والصالحين، لكن أهل البيت (عليهم السلام)، بلغ الإسلام على أيديهم أوج تأريخه، وإتمام رسالته السمحاء!
واقعة كربلاء معركة فاصلة لتشييد الدين، إنتصر فيها الحق على الباطل، والمظلوم على الظالم، والدم على السيف، في ملحمة أكرمه بها الخالق، لتكون نعمة على محبيه، وثورة للإصلاح ضد الفساد، وصرخة عدل ورد ذكرها في الصحف الأولى، في يوم لم يكن للأمام الحسين (عليه السلام)، من قوة ولا ناصر، إلا نجباء أحرار وقفوا الى جانبه، في مسيرة الأباء والتحدي، وهم قوة لا تتألم ولا تتكاسل أمام جنون الطاغية والحقد، فوجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة!
كربلاء الحسين عليه السلام، في فجر العاشر لا علاقة لها، بالحرب المحيطة، بالجسد السليب، والشيب الخضيب، والخد التريب، فضجيج الملائكة، وعزاء النجوم، وزلزلة الأفلاك، كلها في إنتظار خامس أصحاب الكساء، ليلتحق بالرفيق الأعلى، فتصرخ السماوات والارضين: لبيك يا حسين، وهل يحتاج النور الحسيني الى نور، فقد خلقت لأجله الاكوان، فالألم الإنساني الحقيقي المشترك، الذي يجمع محبي الغريب العطشان، هو دماء منتصرة على سيوف الظالمين، فيا أيتها النفس: إرجعي الى ربك راضية مرضية، فإدخلي في جنتي!
الإصلاح الديني والسياسي، وصرخات الكرامة ضد الهوان، في قدرات ليست عادية، لطاحونة دائمة الخضرة، جعلت السماء تصطبغ إحمراراً بكاءاً، على إبن بنت النبي محمد، (صلواته تعالى عليهما)، على أن الضمائر التي قبلت صفقة البيع السيفاني البغيضة، لم تدرك عملها الذي صك وجوههم وقلوبهم السوداء، فعبثاً حاول الطغاة، محو الشعائر الحسينية، وإطفاء جذوة العشق الكربلائي، لكن الباريء (عز وجل)، يأبى ألا يتم نوره ولو كره المشركون، فصفير الجرذان الأموية، لا تستطيع مواجهة زئير الأسود الهاشمية العلوية!
مشاهد الإنتصار العاشورائية، التي تحققت بعد ليال عشر، والفجر الحسيني، الذي خلد الإسلام المحمدي الحنيف، والجسد المرمل بالدماء، حيث حناجر صدحت بحب الحسين، وعائلة موشحة بالسواد الأعظم، مدججة بجبل الصبر الزينبي، في رحلة سبي ومشهد لم يتكرر، لأيتام وثكالى على وجه الأرض، ولم تخط أحداثه إلا من اشترى الرحمن منهم أنفسهم، ومنحوا قربانهم المعصوم تقرباً له سبحانه وتعالى، وأصبح الحسين قناة عالمية للكون، وحلقة للتواصل الإنساني ضد الطغاة، يومها سيصرخ العالم بأجمعه: يا لثارات الحسين!
زيارة الأربعين من علامات المؤمن، النابض قلبه بحب أهل البيت (عليهم السلام)، والمسيرة المليونية التي تشهدها كربلاء المقدسة، وترتفع فيها الرايات الحسينية، شامخة كشموخ الرأس الشريف، الذي كان منشغلاً بتلاوة القرآن الكريم، في طريقه الى الرب، فإشتاقت ملائكته لحضوره البهي، وهو مخضب بدمه الطاهر قائلاً: هكذا ألقى جدي رسول الرحمة، فيكون خصمهم يوم القيامة، (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربه) يقبّلون جسد أبي الأحرار، فيا أيتها النفس الراضية: هنيئاً لك الأربعين المقدسة!