23 ديسمبر، 2024 11:37 ص

فتوى المرجعية الدينية.. نقطة التحول الكبرى

فتوى المرجعية الدينية.. نقطة التحول الكبرى

كل المؤشرات والدلائل والمعطيات تؤكد ان مشهد ماقبل خطبة صلاة الجمعة (12 حزيران 2014) في كربلاء المقدسة، اختلف الى حد كبير عن مشهد مابعدها.

في خطبة صلاة الجمعة، اعلن الخطيب الشيخ عبد المهدي الكربلائي دعوة-او مايمكن ان نسميه بشكل اوضح فتوى-المرجعية الدينية لحمل السلاح من قبل القادرين على ذلك، والوقوف بوجه الجماعات الارهابية التكفيرية، للدفاع عن البلاد، وحفظ المقدسات والحرمات والاعراض.

وعلى امتداد الاعوام الاحد عشر الماضية لم تصدر المرجعية الدينية في النجف الاشرف فتوى بهذا المستوى من الوضوح والتحديد، اذ من المعروف ان المرجعية الدينية، وحينما تقرر اتخاذ موقف معين تأخذ بنظر الاعتبار مجمل الظروف والظرورات والمقتضيات الموضوعية، وتدرس مجمل الاحتمالات والنتائج والمعطيات.

ففي عام 2006، حينما تعرض مرقد الامامين العسكريين عليهما السلام في مدينة سامراء لعمل ارهابي تسبب بتدمير اجزاء من المرقد الشريف، وجهت المرجعية اتباعها وانصارها وعموم ابناء الشعب العراق بضرورة ضبط النفس وعدم الانسياق وراء الفتنة الطائفية التي خططت لاشعالها جهات خارجية وداخلية، وبالفعل كان لتوجيهاتها الاثر الكبير في تطويق الفتنة وحقن الكثير من الدماء وحفظ الكثير من الارواح، ليس من اتباع المذهب الشيعي فحسب، وانما من اتباع مختلف المكونات الدينية والقومية والطائفية والعشائرية في العراق.

وقد يتساءل الكثيرون، لماذا اتخذت المرجعية الدينية مثل هذا الموقف الان بالتحديد؟.

لاشك ان مثل ذلك التساؤل ينطوي على اهمية كبيرة، وان الاجابة عليه من شأنها ان ترفع قدر من اللبس والغموض، او عدم الفهم الكافي، الذي ربما يكون قد اكتنف بعض توجهات ومواقف المرجعية.

وهنا لابد من الاشارة الى جملة تشكل في اطارها العام اجابة على التساؤل الانف الذكر.

-اولا:ان ما حصل في محافظة نينوى مؤخرا مثل تطورا مقلقا وخطيرا، لانه من جانب استهدف ثاني اكبر محافظة عراقية، ولم يستهدف مكونا اجتماعيا معينا، بل ان تنظيم مايسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام(داعش) اعلن بكل وضوح وصراحة ان هدفه احتلال بغداد وكربلاء والنجف وغيرها من من محافظات العراق.

-ان الطريقة الدراماتيكية السريعة التي سيطرت من خلالها الجماعات الارهابية على مختلف مناطق نينوى وراحت تتوجه الى مدن ومناطق اخرى، في مقابل تراجع وانسحاب غير مفهوم ولامتوقع لقطعات الجيش العراق، اشر الى وجود مؤامرة خارجية بأدوات داخلية تستهدف تدمير العراق واخضاعه للجماعات الارهابية.

-ان الجماعات الارهابية التكفيرية التي اعلنت ان اتباع مذهب اهل البيت عليم السلام هم هدفها الاساس، لم تستثن المكونات الاخرى، لاسيما المسيحيين والايزيديين وغيرهم، في نينوى وخارجها، والممارسات التي قام بها الارهابيون بعد سيطرتهم على تلك المحافظة اثبتت واوضحت حقيقة اهدافهم ومخططاتهم التدميرية الدموية.

-وارتباطا بتفاعلات الاحداث في نينوى، لم تتبلور مواقف وتوجهات سياسية موحدة ومنسجمة تتجاوز الشعارات النظرية التي رددتها شتى الزعامات والشخصيات السياسية، في ذات الوقت الذي اخذت حالة من الاستياء والاحباط والخوف والقلق تدب في نفوس شرائح ومكونات اجتماعية عديدة.

هذه الامور وربما غيرها هي التي دفعت المرجعية الدينية الى اصدار الفتوى التأريخية، التي يتفق الكثيرون من الساسة والمراقبين وعموم النخب، انها مثلت رسالة موجهة لكل المكونات ولكل الاطراف الداخلية والاقليمية والدولية، وانها جاءت في الوقت المناسب.

والتساؤل الاخر الذي يطرح نفسه.. ماذا وكيف اثرت فتوى المرجعية الدينية؟..

لعل النقطة المهمة والجوهرية في هذا الجانب تتمثل في انه مابين سيطرة تنظيم داعش على محافظة نينوى في التاسع من شهر حزيران-يونيو الجاري، وحتى صدور فتوى المرجعية الدينية في الثالث عشر من هذا الشهر، كانت الامور تتجه الى الحافات الخطيرة بصورة سريعة جدا، ولم يبق شيئا في الصورة يبعث على التفاؤل، ولكن ما ان صدرت فتوى المرجعية ظهر يوم الجمعة الماضي حتى راحت المعطيات تتبدل شيئا فشيا، لكن بصورة واضحة وملموسة، بحيث شكلت الفتوى نقطة تحول وانعطافة كبرى في مسار الصراع مع الجماعات الارهابية.

اذ انها-اي الفتوى-عززت الروح المعنوية لدى الكثير من عناصر القوات العسكرية والامنية الحكومية، وهو ما ساهم الى جانب تعديل الخطط العسكرية، وتغيير القيادات الميدانية، في ايقاف تمدد الجماعات الارهابية، واكثر من ذلك اخذت تتلقى ضربات قاصمة من قبل تشكيلات الجيش العراقي، لاسيما طيران الجيش وقوات النخبة.

والمسألة الاخرى ان الفتوى، ادخلت عنصرا جديدا في معادلات الصراع بقوة، الا وهو العنصر الجماهيري، المعروف بولائه وطاعته للمرجعيات الدينية على مر التأريخ، وخصوصا في المنعطفات الحرجة والحساسة. واية مراجعة تأريخية سريعة تؤكد ذلك، ففي عام 1911 اصدر المرجع الديني الشيخ الخراساني فتوى الجهاد ضد الاحتلال الايطالي لليبيا، وكان لتلك الفتوى تأثيرا كبيرا على مجريات الاحداث في ذلك الحين، وفي عام 1948 اصدرت المرجعية فتوى اسقطت معاهدة بورتسموث سيئة الصيت التي ابرمتها الحكومة العراقية في ذلك الحين مع بريطانيا، وكانت هناك فتوى اخرى بدعم الشعب الفلسطيني ورفض اقامة دولة “اسرائيل”، وفي عام 1967، اصدرت المرجعية الدينية المتمثلة بالامام محسن الحكيم، فتوى بدعم المقاومة الفلسطينية وجواز دفع الحقوق الشرعية لها، وهناك فتاوى اخرى مثلت محطات مهمة، وكانت انعكاسا لعمق مكانة وتأثير المرجعيات الدينية وطبيعة مواقفها التأريخية المشرفة في الدفاع عن القضايا المبدئية.

وليس غريبا ان نجد ملايين الناس، لا في العراق فحسب، بل في دول مختلفة، يستجيبون لدعوات واوامر المرجعية الدينية ويتدفقون الى مراكز التطوع للانخراط في صفوف قوات الجيش والشرطة، واكثر من ذلك فأن شرائح اجتماعية واسعة من عناوين قومية ودينية ومذهبية متعددة تفاعلت الى حد كبير مع فتوى المرجعية الدينية، لانها رأت فيها مخرجا حقيقيا للازمة، ولانها تثق بصدق مواقف المرجعية ومنهجها الابوي في التعامل مع كل العراقيين.

والمسألة المهمة الاخرى، هي ان فتوى المرجعية، ومن خلال الجو الشعبي العام الذي اوجدته ضد الارهاب، اربكت الجماعات الارهابية والاطراف الداعمة لها والجهات المتواطئة والمتعاطفة معها، وجعلت تراجعها وانكسارها وهزيمتها اسرع واسهل من ذي قبل.

وبما ان الجميع يتحدث اليوم عن الفتوى التأريخية واثرها في تغيير-او تعديل-مسار الصراع مع تنظيم داعش، فأن الحديث عن قرب حسم المعركة لصالح العراقيين والعراقيين، بات هو السائد.

وبقدر ما ان ذلك مهم جدا، الا ان الاهم منه هو في اجراء مراجعات شاملة لكل ماحصل وتشخيص نقاط الضعف والقوة، والاسباب الكامنة وراء ذلك، وهي بلا شك اسباب بعضها سياسية، وبعضها امنية، وبعضها فنية، العمل على منع تكرار ما حصل، الى جانب تلافي اثاره ومؤثراته النفسية والمعنية والمادية، واستثمار الزخم الكبير الذي خلقته فتوى المرجعية لتطهير نينوى وغيرها من مدن العراق ومناطقه من الارهاب بشتى مظاهره واشكاله وصوره.