مع اقتراب لحظات الحسم الديمقراطي واشتداد المنافسة، يلمس المتابع لتصريحات وسلوكيات الكتل التي وضعت نفسها في قبال الحكومة كقوى (معارضة)، الإبتعاد التام عن قواعد المنافسة الإنتخابية التي أقرها الدستور والقوانين وأكدت وما زالت تؤكد عليها المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، في حين ذهب البعض بعيدا عن حدود اللياقة والذوق والأعراف الإجتماعية في الحرب الكلامية والإمعان بإنتهاج سياسة التشويش والتسقيط وشحن الأجواء الإنتخابية بالدعايات المغرضة الهادفة لخلط الأوراق وإرباك المشهد الانتخابي في محاولة بائسة للتأثير على خيارات الناخب ومصادرة ارادته.
لكن الناخب العراقي مدرك لحقيقة، أن جميع الأطراف المناوئة لرئيس الحكومة العراقية هم بالأصل شركاء أساسيون في الحكم، ومسؤولون تضامنيا عن طبيعة الأداء الحكومي في الفترة الماضية، وحتى عند التسليم بأن هذه الكتل السياسية لم تكن قد احتلت المواقع الوزارية المهمة، وكانت قد اتخذت ومنذ وقت مبكر موقع (المعارضة)، فالحكومة والمعارضة في النظم الديمقراطية ليسوا أعداءًا بل شركاء في الوطن حتى وان لم يكونوا كذلك في السلطة، وينبغي أن تشكل المصلحة الوطنية البوصلة التي تضبط أداء وتفاعل كل منهما تجاه الآخر. عندئذٍ يمكننا القول بأن مثل هذه المعارضة مؤهلة لتولي المسؤولية في حال أسفرت نتائج الانتخابات عن تغيير في موازين القوى السياسية لصالح المعارضة.
ألا أننا وعلى العكس مما سبق، نرى استخفافاً واضحاً من قبل تلك الكتل بالمصلحة الوطنية وتبديداً عبثياً للجهد الوطني، فعلى الرغم من أن العراق يخوض اليوم، ومنذ سنين طوال حربا شرسة ضد الإرهاب، ومع تمكن هذه القوى الارهابية من التوغل والعبث في احدى المدن العراقية (الفلوجة)، ألا أن تلك القوى السياسية المسماة مجازاً بـ (المعارضة) لم تبدي قدرا من المسؤولية الوطنية والاخلاقية في تعاطيها مع المعركة المصيرية التي تخوضها الحكومة العراقية برئاسة السيد المالكي ضد الإرهاب، إن لم نقل هي أكثر تناغما مع القوى الارهابية في فتح جبهات ساخنة أخرى وأشد تجاهلا للخطر المحدق بالعراق من قبل الإرهابيين (الدواعش)، وأكثر اصرارا على إضعاف الموقف الحكومي وخلخلة معنويات القوى المسلحة عبر استهداف قائدها العام بالأراجيف والشائعات لحسابات انتخابية زائلة وعلى حساب أمن الوطن والمواطن، وكأن المعركة مع الارهاب هي معركة المالكي وحسب وليست قضية وطنية بل ودولية/ انسانية، تعاني منها أكثر الدول تطورا واستقراراً..!.
ليس هذا وحسب، بل أن آخر ما أفرزته الهيستريا الاعلامية: هو أن الماكنة الانتخابية لخصوم السيد المالكي كانوا قد نسبوا فتوى تحريم (إنتخاب المالكي) لسماحة المرجع الشيخ بشير النجفي (دام ظلّه)، رغم أن حديث الشيخ كان شاملا في نقد أداء كل مواقع المسؤولية (بضمنها المواقع الوزارية للشركاء والتواجد العقيم لمعظم أعضاء البرلمان)، فالمرجع (دام ظلّه)، أدلى بما يعتمل في صدورنا جميعا بالدعوة الى المشاركة الفاعلة بالإنتخابات واختيار المرشح الأصلح أملاً في التغيير نحو الأفضل، ومن غير المنطقي أن يصدر منه (أطال الله بقاؤه) فتوى بهذا المعنى المحرّف الذي تم تصويره من قبل المتصيدين في الماء العكر، لأن في (التحريم) وببساطة مصادرة لإرادة الناخب العراقي، ومعارضة لفتوى سابقة لاختيار (الأصلح) التي أقرها المراجع العظام وتأكيدهم الوقوف على مسافة واحدة من الجميع.
ومن ثم أن الفترة الحقيقية التي امتلكت فيها حكومة السيد المالكي القرار الوطني كانت قد ابتدأت في “يوم الوفاء” 31 كانون الأول 2011: تاريخ دخول العراق مرحلة التحرر الوطني بعد انسحاب القوات الأمريكية المحتلة بفضل الجهود التفاوضية لحكومة السيد المالكي التي تكللت بمنجز تاريخي لم يكن ليحدث لولا الأداء السياسي المتزن الذي وفّق بين المسؤولية تجاه ما أفرزه المسار التفاوضي من التزامات مع الجانب الأمريكي وبين إلتحام الحكومة مع سقف التطلعّات الوطنية للشعب العراقي الطامحة لنيل سيادة العراق الكاملة على أرضه وثرواته. ورغم هذا المنجز التاريخي ألا أن (خصوم المالكي) كانوا يشككون في نجاح القوات الأمنية ويراهنون على الانهيارات القاتلة نكاية بالسيد المالكي، ومع ذلك فقد تجاوزت الحكومة برئاسته الفترة العصيبة الماضية التي تقاذفتها مطرقة الإرهاب من جهة وسندان الشركاء السياسيين الساعين لوضع العصيّ في عجلة الأداء الحكومي من جهة أخرى.
ولا نريد هنا الانتقاص من أحد منافسي السيد المالكي، ألا أن الكتل المنافسة ومرشحوها لا يدركون تمام الادراك تعقيدات الوضع الداخلي والاقليمي والدولي الراهن، فالوضع الإقليمي والتجديد لأردوغان المتجه بنفوذ بلاده جنوباً بعد إستحالة انضمام بلاده الى الاتحاد الأوربي، والنزاع المسلح في سوريا وما يرافقه من غيوم داكنة سوداء غطّت سماء المنطقة وألقت بظلالها على الوضع الأمني في العراق حتى باتت احدى المدن العراقية (الفلوجة) رهينة بيد القوى الارهابية (داعش)، وكذلك رأس المال السعودي المتدفق الى العراق لإزاحة المالكي، طمعاً في بديل لا يقوى على رفض الاملاء السعودي وليس ميّالا الى تعامل النِد للنِد، التي تعيد للعراق دوره الهام في المنطقة، خاصة وأن حكومة السيد المالكي كانت قد نجحت في الثبات وعدم الانزلاق في سياسة المحاور الإقليمية معززة بذلك ثقة المجتمع الدولي بالسياسة الخارجية للعراق. أما الوضع الدولي وسياسة الاستقطاب والرغبة الجامحة للروس في تأمين نفوذ سياسي واقتصادي يعزز مصالحها في هذه المنطقة الحيوية فهو يعقد الأمور أكثر.
وكذلك الشأن الداخلي، فالأمن في المرحلة القادمة سوف يكون الفيصل في وجود العراق كدولة قادرة على الاستفادة من ثرواتها وتنمية قطاعاتها الاقتصادية المختلفة، خاصة وأن الاتجاه الاردوغاني (الكونفيدرالي/ القبلي) نحو البلد والذي لايخلو من نبرة التحدي، له من يأتمر بأوامره من ساسة العراق. وكذلك الأجندة السعودية الطامحة الى دور الصدارة، هي الأخرى لها من ينفذ مفردات أجندتها، ويسعى لتعزيز نفوذها السياسي في العراق على حساب تعطيل التجربة الديمقراطية وضرب العملية السياسية وتقوية بؤر الارهاب.
وفي نظرة سريعة لطبيعة وقوة شخصية الأطراف المطروحة من قبل الكتل السياسية الأخرى كمنافسين للسيد المالكي ومن شاكلة (علي دواي، وباقر صولاغ) وأمثالهما، يدرك المراقب وبسهولة بأن موقع رئاسة الوزارة لبلد كالعراق، وفي ظرف كالذي نحن فيه، هو أكبر بكثير من امكانية وخبرات وقدرة الأشخاص المطروحين اليوم من قبل الكتل السياسية الأخرى، وخاصة تلك التي بدأت تثار حولها الشكوك نتيجة تصدّر قوائمها شخصية تطلق على نفسها (وكما في الرابط التالي).. “شيخ البعثيين” والمقصود هنا الرفيق حسن العلوي وموقع الصدارة في كتلة الأحرار.. وأخرى هي كتلة المواطن التي فتحت أبوابها لشخصية أساءت للمرجعية الدينية في تصريحاتها الأمر الذي حمل دولة القانون الى طردها من القائمة، وهو النائب حسين الأسدي الذي وجد أبواب كتلة المجلس الأعلى مفتوحة على مصراعيها (رغم تطاوله على المرجعية واستنكار صولاغ لتصريحاته).. كما في الرابط أسفل المقال.
أن هؤلاء ليسوا معارضة بدليل حجم اندفاعهم غير المحسوب والمضاد للسيد المالكي والذي يعكس أدوارهم الخفية المغرضة في تعطيل الأداء الحكومي مسبقاً، بل حتى وان انطبق عليهم وصف (المعارضة) فإن سلوكياتهم الانتخابية تؤكد عدم أهليتهم لإدارة الدولة أو النهوض بالعراق، فكل ما يملك هؤلاء هو قول ” سنفعل، وسوف نفعل”.. دون ادراك لخطورة المرحلة وتعقيدات الوضع الإقليمي والدولي.. في حين أن الخبرة المتراكمة لحكومة السيد المالكي ومع تأكيدها على التوجه المستقبلي نحو حكومة الأغلبية السياسية قد أوصل رسالة إطمئنان للناخب العراقي، تقول “سنكمل ما شرعنا في انجازه وسننجز المزيد”.