22 ديسمبر، 2024 3:09 م

فتنة الغرائز بين الاخلاق والدين “قصة الفتنة لنجيب محفوظ إنموذجا”

فتنة الغرائز بين الاخلاق والدين “قصة الفتنة لنجيب محفوظ إنموذجا”

يقول عمر الحمزاوي في “الشحاذ”: ((لم أكن في تلكاللّيالي العجيبة حيوانا تحرِّكه شهوةٌ، ولكنّني كنتُ مُعذَّبا.. وبائسًا“، و”كلَّما رأيتُ أنثَى خُيِّلَ إليَّ أنّني أرى الحياةَعلى قدمين.“)).

  استطاع حمزاوي أن يسيطر على غرائزه، ولا يدعها سائبة مثل الحيوان الذي تحركه تلك الغرائز. فهل كانت بطلة قصتنا القصيرة “الفتنة” مسيطرة على غريزتها؟ لنقرأ القصة مرة أخرى.

– القصة:

  ((كنتُ أتمشَّى عند الباب الأخضر، فصادفتُ درویشًامنتحيًا جانبًا بامرأة. كانت وسيطة العمر، ريانة الجسم، فواحة الأنوثة، محتشمة النظرة.

  ولمَّا اقتربتُ منهما سمعتها تقول: یا سیدنا، إني أرملة، أعيش مع شقيقتي، مستورة والحمد لله، ولكني أخاف الفتنة.

  فقال لها:

أدِّي الفرائض.

  فقالت بصدق:

لا تفوتني فريضة.

  وأضافت:

وأسمع تلاوة القرآن لدى كل فرصة.

  فقال:

لن يمسَّك الشيطان.

  فقالت:

ولكني أخاف الفتنة.))(مجموعة “أصداء السيرة الذاتية“).

***

  هناك مجموعة من الأسئلة التي يمكن طرحها في هذه الدراسة، ونحن نتكلم عن قصة (الفتنة) في هذه المجموعة أو غيرها في كتابات محفوظ السردية، هذه الأسئلة، هي:

هل خلقت الغرائز مع البشر؟

– متى تعرف الانسان على الدين؟

– متى تعرف الانسان على الأخلاق؟

  الجواب على هذه الأسئلة سيعود بنا الى الأساطير خاصة، ومنها اسطورة جلجامش:

  تذكر ملحمة جلجامش، ان أنكيدو صديق جلجامش، والمومس التي أرسلها جلجامش لتأنسنه، وتخضعه لها،  يلتقيان فتدفعه غريزته لها، ويجامعها، فيتحول من بشر الى انسان، وتبقى هذه الغريزة معه دائما، إلا انها تحتاج الى تنظيم، وتقنين، وان الذي ينظمها، ويقننها، هو الأخلاق.

  في بداية القصة كانت المرأة تقول:

یا سیدنا، إني أرملة، أعيش مع شقيقتي، مستورة والحمد لله، ولكني أخاف الفتنة.

  وفي نهاية القصة نسمعها تقول:

ولكني أخاف الفتنة.

 فماذا نفهم من قولها هذا؟

***

  من ملحمة جلجامش أيضا، وعندما يفاجأ جلجامشبسرقة العشبة، ويبقى انسانا لا إلها، وظل الخلود من نصيب الآلهة، يعود الى رشده فتعمل الاخلاق عملها فيه.

  إذن الأخلاق خلقت مع الانسان، وليس مع البشر، ولما كان الانسان قد جاء بعد التثقيف الذي جرى على البشر بسبب الجنس، فإنه أخذ يقنن غريزته، ويثقفها، وهذا التقنين، والتثقيف، كانا قبل مجيء الدين، مع وجود الأخلاق. لهذا نجد حلول الشيخ في القصة غير ذات فائدة لأن المرأة في نهاية القصة تقول للشيخ:

ولكني أخاف الفتنة.

***

  تعرف الانسان على الدين بعد تحول البشر الى انسان مثقف، يشغّل عقله، وبعد تخلقه بالأخلاق الحميدة، والسيئة، على السواء، هذه الأخلاق هي ما يمكن أن نسميها بالوصايا العشرة التي قننتها اليهودية، والتي أعادها الاسلام. خاصة المذكورة إدناه:

  ((لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبك شَهَادَةَزُورٍ. لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلَا عَبْدَهُ،وَلَا أَمَتَهُ، وَلَا ثَوْرَهُ، وَلَا حِمَارَهُ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ.)).

  ان دخول الدين في أمور الغريزة الانسانية لا يجدي نفعا، فهو يكرر نفسه، وهذا ما حدث لسعيد مهران بطلرواية “اللص والكلاب“، فيما كان يفعل أمام قول الشيخ(ص26):

  (( – لم يقبض علي بتدبير البوليس، كلا، كنت كعادتي واثقا من النجاة، الكلب وشى بي، بالاتفاق معها وشى بي، ثم تتابعت المصائب حتى أنكرتني ابنتي.

  فقال الشيخ بعتاب:

– توضأ واقرأ ((قل إن كنتم تحبون الله قاتبعوني يحببكم الله))، واقرأ ((واصطنعتك لنفسي)) وردد قول القائل ((المحبة هي الموافقة أي الطاعة له فيما أمر، والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر)).

  ها هو أبي يسمع ويهز رأسه طربا، ويرمقني باسما كأنما يقول لي اسمع وتعلم. وأنا سعيد وأود غفلة لأتسلق النخلة أو أرمي طوبة لأسقط بلحة. وأترنم سرا مع المنشدين. ومع العودة ذات مساء الى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها مقبلة تحمل سلة. جميلة وجذابة، طاوية هيكلها على جميع ما قدر لي من هناء الجنة وعذاب الجحيم. ماذا كان يعجبك من إنشاد المنشدين؟ لما بدا لاح منار الهدى، ورأيت الهلال ووجه الحبيب، لكن الشمس لم تغرب بعد. آخر خيط ذهبي يتراجع من الكوة، أمامي الليلة طويلة، هي أولى ليالي الحرية، وحدي مع الحرية، أو مع الشيخ الغائب في السماء، المردد لكلمات لا يمكن أن يعيها مقبل على النار، ولكن هل من مأوى آخر آوى إليه.)).

  صحيح ان المقطع طويل إلا ان المفارقة موجودة بين أوّل المقطع، ونهايته. فهو يقول في بداية المقطع: ((المحبة هي الموافقة أي الطاعة له فيما أمر، والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر)). فيما يقول في نهايته: ((…أو مع الشيخ الغائب في السماء، المردد لكلمات لا يمكن أن يعيها مقبل على النار، ولكن هل من مأوى آخر آوى إليه.)).

  المفارقة بين أن يطلب الشيخ منه الطاعة…الخ، وبين أن يقول هو ((المردد لكلماته لا يمكن أن يعيها وهو مقبل على النار))، أي انها كلمات لا تنفع الذي هو مقبل على النار.  

***

  في القصة القصيرة، وفي الرواية، يتبين لنا ان أدعية، وكلمات، الشيوخ لا تنفع، وكلها كلمات جوفاء خالية من الفائدة، والمنفعة، وهذا ما أراد محفوظ إيصاله في هذه القصة، وتلك الرواية، وكذلك في مجمل كتاباته الأدبيه.