لا أحدثكم عن الرسام الفرنسي (فان كوخ) الذي برع في مدرسة ما بعد الإنطباعية , ومات دون الأربعين من العمر (1853-1890), ودفن مع أخيه في مقبرة بمدينة (أوفيرس- سور- أويس) التي قضى فيها فقط آخر سبعين يوما من حياته , وأنتج خلالها خمسة وسبعين لوحة (منها كنيسة المدينة , ولوحة لدكتور كجيت , وآخر لوحة له تصور حقل الحبوب) , ثم أطلق النار على صدره وقضى نحبه.
أحدثكم عن رسام بارع , كنت أسميه بهذا الإسم , وهب حياته للرسم , وعاش أيامه بصعوبة , فما كانت تدر عليه لوحاته مالا وفيرا , بقدر ما تساهم في إدامة سعيه ونشاطه وحاجاته الأخرى.
وأعرفه منذ أن كنت صبيا , وكان طويل القامة ممشوقا , بملامح الفنانين والمبدعين , وكنا ننظر إليه بإعجاب , لأن أخبار شهرته في الرسم قد تواردت إلينا , وفي المدرسة المتوسطة , كان مدرس الرسم , يعرض لنا لوحاته على شرائح , ويشرح لنا تقنياته في الرسم والتعامل مع اللون والضزء زالأبعاد , وكان يذكر لنا بأن اللوحة الفلانية موجودة في المتحف الفلاني , ولا ندري حينها مدى صدق روايته , لكنه كان من المعجبين بهذا الرسام , الذي درس الرسم في الخارج , وعاد بعد سنين غربة ليستقر في سامراء وحيدا , يعاقر ألوانه وكأسه , ويعمل في مرسم متواضع في منطقة القاطول.
وبقي وفيا لرسمه وألوانه حتى آخر لحظة من عمره.
وبعد أن أصبحت طبيبا تواصلت معه , وإقتنيت لوحاته , تشجيعا وإعجابا , وكانت تربطني معه علاقة ثقافية وفنية , فيحدثني عن الفن ومدارسه , والتقنيات في الرسم , وكيف يتعامل مع اللوحات.
وكان من المعجبين بالجواهري فتراه يضمن لوحاته بعضا من أبياته , أو يرسم بعض الأبيات الشعرية بريشته.
وكغيره من الرسامين كان صديقا حميما للصهباء التي أخذت منه ما أخذت , وأصابته بمقتل.
وقد طلبت منه ذات زمن عسير في عام ألفين وخمسة , لوحة تلخص حالة البلاد , فرسم لي لوحة مؤثرة , لا أستطيع عرضها لأن كل الذين يشاهدونها يتألمون برؤيتها ويحزنون حزنا قاسيا.
وفي الأسبوع الأخير من شهر آذار الماضي زرته في مرسمه , فوجدته في حالة هذيان وتشوش , وما عرفني , وبعد محاولات وحديث معي , عجز عن معرفتي , فحزنت على أمره , وأخذت له صورة وأخرى معي , وحسبتها آخر صورة له , وبعد بضعة أسابيع سمعت برحيله.
تذكرت هذا الرسام السامرائي الأصيل المغيّب المجهول , وأنا أتأمل آثار (فان كوخ) , ومقبرته , واللوحات التي رسمها , والبيوت والكنائس والحقول التي صورها , والنصب والتماثيل التي صُنعت له , وكيف صارت المدينة التي مات فيها , محطا للسائحين من أنحاء الأرض كافة , فتحول كل شيئ إلى نشاط إقتصادي سياحي يدر أرباحا طائلة على المدينة.
وتساءلت لماذا لا تعتز , وتقدر مدننا فنانيها ومبدعيها , وتسوّقهم في هذا العالم الذي تتنافس فيه القدرات؟
وأدركت أن شعورنا بفقدان القيمة الذاتية والمكانية والمعنوية , هي التي تسببت في هذا الخسران الحضاري!
فتحية لفان كوخ السامرائي , الذي لن تعرف سامراء قيمة فنه وإضافاته الإبداعية , والذي مات كغيره في مرسمه , في محلة القاطول , ولا أدري اين سيكون مصير لوحاته , التي لو كانت في مدينة أخرى , لأقيمت لها متاحف ومعارض ومزادات , فالرجل له خبرة ومهارة متميزة في الرسم , وعنده قدرات إبداعية وتعبيرية أصيلة.
وما إقتنيته منه من لوحات أجدها ذات قيمة فنية واضحة!!