وأعرفُ ناقداً فحلاً شاعراً ، جلستُ إلى مائدته غير مرةٍ ومرات . كان كئيباً متجهّماً عبوساً يائساً تالفاً قانطاً منهَكاً منهِكاً ، مهدوداً حيلهُ ، قافلاً بيبان قلبه والحشى ، على قهرٍ عظيم ، لو قُدَر لقادرٍ جبّار ، أن ينزلهُ فوق ذروة جبلٍ راسٍ ، لتصدّعَ وتشقّقَ وتفتّقَ ، وصار إلى تراب ، تذروه ريحُ ربٍّ رحيم . كان صامتاً أزيد من ناطقٍ ، وهو من آباء الكلام ومن نحّاتهِ وطغاتهِ . قوياً لا تكادُ تسمعُ منه شكوى . مكابراً شديداً ، آهاته وأنّاتهُ ، تتنزّل في عبّهِ الجبّ ، فتصير سكراباً من مطمورات الأيّام . لا تنمو في حدَقتهِ دمعة ، ولا ” تمضُّ ” في مائدته نكتة ، فإن رقَّ عليه قلبُكَ الأخضر ، ورششتَ على أعتابهِ ، ألفَ طرفةٍ وملحةٍ ، من كيس ما سمعتَ وقرأتَ وشفتَ واشتهيتَ ، قام من قعدته ، وطبع على وحدتك ووحشتك ، أثرَ ابتسامةٍ ، أكلتْ من يمين حلقهِ ، عُشراً من قيد أنملة ، هي كفّارة حبٍّ ساكت ، سدَّ مسدّ ضحك وجلبة سبع قبائل عاتيات . كنتُ وقعتُ مرّة ، على بعض غلظتهِ ، صحبة عبد الزهرة زكي ، ومحمد تركي النصار ، إذ دعبلتْنا واحدةٌ من ظهيرات بغداد العباسية ، صوبَ بابهِ الحصين المسدود ، تحت مقبّبات دار الشئون والشجون الثقافية . كان هو خلقة مخلوقة من جلاميد ، وكنتُ أنا ، ومحمد وزهرة ، مثل غضاضة تلاميذ نُجُب ، ينطرون شوفة أوراق القراءة الخلدونية . كان على هذه الحال ببغداد ، وزادت الأيام السود ، بلَلَ طينهِ بعمّون ، بلّةً ، حتى صرتُ على يقينٍ من أنني لو تأبّدتُ فوق الأرض ، أبدَ آبِدين ، لَما وقعتُ على كائن كئيب مثله . ولقد جئنا على ذكرِ وذكرى هذا الرجل ، وصحبي ، ونحن ندلف إلى العشرة الوسطى من رمضان ، ونرى عشرته المتأخرات ، على طريقة تقويس الكفِّ وتحديبهِ ، وزرعهِ فوق الحاجبين المعقودين ، والجبهة التي خدّدتْها المصائب . وقع هذا الأمر بمقهى لطيف من مقاهي عمّون ، إسمه مقهى فوانيس ، وقد أعادني هذا الإسم المشعّ الصائح ، صوب مطعم فخمٍ بشارع السعدون ، من أعمال بغداد الحلوة ، تواجهك طلّته البهية ، حال خروجك من حلقِ سينما بابل ، وقطعك الشارع من غير استعمال خطوط العبور الآمن ، صوب أبي نواس وشميم مسكوفهِ ، وعلى مبعدة خمس شبخات ، سترى إلى يسارك ، مطعماً بأضواء خافتات ، مثل طمأنينة مفتقدة ، اسمه مطعم فوانيس ، الذي كنتُ دخلتهُ مرة واحدة أثناء حياتي ، فأكلتُ من طيب طعامه ، وشربتُ من عذب شرابه ، ضيفاً عزيزاً على مائدة الكريم ، مريوش الطبّاع أبو رمزي ، قبل خراب آخر ما تبقّى من البصرة والبلاد . أمّا صاحبيَ في الذكرى والتذكُّر والتذكير ، فأولهما كان حميد سعيد ، الذي قصّ علينا مستأنساً ، قصة قصيدته ” مقامات بغدادية ” وهو نصّ شعري مدهش ، رشَّ أبو بادية جسده ، بسلة بديعة حنينة ، من مقامات وبسْتات عراقية شجية مؤنسة . أما ثالثنا في الموقعة ، فكان علي جعفر العلاق ، الذي جاء على الشعر والنقد والنشر والناشرين ، وخلّان الأيام البوائد ، فضحكنا بقوة ، حتى صار الناظر إلينا ، مستريباً شكّاكاً ، بأنّ هؤلاء الضَحَكَة ، ليسوا من صنف ” الموريسكيين ” أو مواركة جابر خليفة جابر ، الشاردين من بلاد ما بين القهرين !!
[email protected]
عمّان حتى الآن