ولد دينيس ايفانوفيتش فانفيزين في موسكو عام 1745 وتوفي في بطرسبورغ عام 1792, وبالتالي فانه اديب روسي عاش وتوفي في القرن الثامن عشر في روسيا , التي حكمتها القيصرة يلازافيتا بتروفنا من عام 1741 الى عام 1761,والقيصر بيوتر الثالث من عام 1761 الى 1762 (حيث تم الانقلاب عليه واعدامه) وجاءت الامبراطورة يكاترينا الثانية في عام 1762 وحكمت 34 سنة ولغاية 1796. لقد شهد القرن الثامن عشر توطيد الامبراطورية الروسية بعد كل الجهود الهائلة التي بذلت طوال عدة قرون , بما فيها اعمال واصلاحات قيصرها الشهير
بيوتر( بطرس) الاول او الاكبر او الاعظم كما يسمونه تاريخيا , الا ان هذه الامبراطورية الشاسعة والقوية عسكريا وسياسيا لم تكن تمتلك تراثها الادبي والثقافي والفكري بشكل عام , ويمكن القول ان هذه الحركة الفكرية الكبرى قد ابتدأت بالتبلور في القرن الثامن عشر ليس الا, اذ ان معظم المحاولات السابقة كانت في اطار الاجتهادات الكنسية- الدينية.
يبدأ تاريخ الادب الروسي في القرن الحادي عشر, ويطلق عليه الباحثون الروس –(الادب الروسي القديم) ويمتد الى نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر , وتوجد اقسام علمية في كليات الاداب الروسية متخصصة بدراسة هذه الفترة في تاريخ الادب, ثم تعقبها فترة القرن الثامن عشر وتوجد كذلك اقسام علمية تدرس تلك الفترة ,حيث ظهر ادباء روس ساهموا بالكتابة في مختلف الاجناس الادبية , ومنها بالطبع الادب المسرحي, ومن ابرز الاسماء في ذلك القرن هو لامانوسوف –العالم الروسي الموسوعي الكبير الذي ساهم في معظم النشاطات العلمية والادبية آنذاك والذي اسس جامعة موسكو عام5 175و التي لازالت تحمل اسمه لحد الآن, والذي اسماه بوشكين فيما بعد بانه – ( جامعتنا). ان لامانوسوف هو من اوائل من وضع قواعد اللغة الروسية وبداية علم العروض وكتب الشعر الروسي الذي يمجد كيان الدولة الروسية ويدعو الى تثبيت دعائمها , وساهم ايضا بالكتابة للمسرح , الا ان الكاتب المسرحي الاهم في تلك الفترة كان سوماركوف الذي تخرٌج في مدرسة الفنون للتمثيل ثم تم تعينه مديرا لها وهي بداية تاسيس المسرح الروسي. لقد كتب سوماركوف عدة تراجيديات للمسرح والتي تم عرضها وباللغة الروسية, وهي اول العروض بتلك اللغة , اذ كانت العروض سابقا باللغات الاجنبية, واول محاولات المسرح كانت في زمن بطرس الاول الذي حاول ادخال النمط الغربي في الحياة الروسية, وكانت ا لعروض اجنبية, و فرنسية بالاساس لفولتير وراسين وموليير وغيرهم, ثم جاءت فترة ( ترويس) النصوص الاجنبية ,اي محاولة ترجمة و تحوير تلك النصوص الاجنبية وجعلها متناغمة مع الروح الروسية بتغيير الاسماء مثلاو هي فترة مرٌت بها معظم الشعوب التي ارادت اللحاق بركب المسيرة المسرحية (في العراق مثلا تحولت احدى مسرحيات بريخت الى – البيك والسايق).
لا تهدف مقالتنا هذه الى عرض مسيرة المسرح الروسي وتاريخه , ولكننا نريد التحدث عن فانفيزين ودوره في تلك الفترة بالذات, اذ انه ظهر آنذاك , ودرس في جامعة موسكو ( كلية الفلسفة) وسافر الى بطرسبورغ وتعرف على لامانوسوف وسوماركوف وزار المسارح …الخ, وبدأ بالنشر عندما طلبوا منه ان يترجم من اللغة الالمانية اساطير مؤسس ادب الاطفال الدنماركي لودفيك غولبيرغ, وقد ترجم 228 اسطورة , وبعد ذلك ابتدأ بالترجمة من اللغة الفرنسية , واصدر عدة روايات ومسرحيات مترجمة, ثم بدأ ينشر نتاجاته الخاصة ذات النكهة المرحة والساخرة, وهكذا ظهرت مسرحيته الاولى وكانت بعنوان – ( البريغادير ) عام 1769
والتي احدثت انقلابا في مسيرة المسرح الروسي حسب تعبير أحد النقاد الروس, لانها ( اول مسرحية روسية بحتة) مقارنة بمحاولات سوماركوف والاخرين الذين كانوا يساهمون بالكتابة للمسرح او(ترويس ) النصوص الاجنبية بعيدا عن نبض الحياة الروسية اليومية . لقد ارتأينا ان نحتفظ بتسمية هذه المسرحية كما جاءت عند فانفيزين, اي ( البريغادير), وهي كلمة المانية دخلت الى الروسية وتعني رتبة عسكرية محددة واصبحت مفهومة للعرب في الوقت الحاضر. لكن المسرحية الكوميدية الثانية له والتي ظهرت عام 1782 هي التي وضعت فانفيزين فعلا في الصدارة بالنسبة لمسيرة المسرح الروسي وتطوره اللاحق. عنوان تلك المسرحية يتكون من كلمة روسية واحدة هي- ( القاصر)بمعنى الفتى الذي لم يبلغ بعد سن الرشد, وقد صاغ فانفيزين تلك الكلمة بالروسية من توحيد كلمات روسية مختصرة ويمكن ترجمتها بشكل حرفي تقريبي – ( لم يصل للنضوج ), ولم تستقر ترجمة تلك المسرحية الكوميدية لحد الآن بلغتنا العربية , فقد جاءت في الموسوعة العربية الميسرة هكذا – ( الشباب الآمل), وهي ترجمة غير سليمة بتاتا, وربما يمكن ان نطلق عليها عنوان -( الفتى القاصر), اذ ان هذه التسمية تحافظ على النص الاصلي وروحه , لان الكلام يدور في تلك المسرحية الكوميدية حول فتى لم يبلغ بعد سن الرشد. ان الموضوعة الاساسية في هذه المسرحية ( كما في المسرحية الاولى ايضا) هي – التربية الاخلاقية ومشاكلها, والتي يرى فانفيزين انها لا تكمن فقط بالتعليم , وانما ترتبط ايضا بالتربية في البيت والمجمتع, وفي تربية ( الروح) الانسانية بشكل عام ,وهي قضايا مهمة كانت مطروحة امام المجتمع الروسي آنذاك بشكل حاد, اضافة الى انها ترتبط بمسيرة كل المجتمعات الانسانية في كل زمان ومكان, ولهذا فان هذه المسرحية الكوميدية لازالت ولحد الآن تعرض على مسارح روسيا, ويتقبلها المشاهد المعاصر ويتفاعل معها. لقد أشاد بوشكين نفسه بهذه المسرحية وتحدث عن ( روحها المرحة) وتأسٌف لان مثل هذه النتاجات ( قليلة جدا) في مسيرة الادب الروسي ( بالنسبة لعصره بالطبع) , وأشار الى انها ترتبط بخط مباشر مع مسرحيات غوغول الكوميدية , ومن الطريف ان نذكر هنا , ان بوشكين أدخل اسم فانفيزين في متن روايته الشعرية الشهيرة ( يفغيني اونيغين) واطلق عليه تسمية– ( صديق الحرية) , وهي ظاهرة نادرة جدا في تاريخ الادب الروسي, اما الاديب الروسي الكبير غانجروف , فقد كتب رسالة الى ألكاتب المسرحي الروسي المعروف أستروفسكي, واشار فيها الى انه ( اي استروفسكي) قد اكمل بناء المسرح الروسي , الذي وضع اسسه كل من ( فانفيزين وغريبويدف وغوغول).
لا توجد بالعربية – مع الاسف – دراسات واسعة ومعمقة حول الادب الروسي القديم والادب في القرن الثامن عشر و لاعن هؤلاء الادباء الذين وضعوا اسس الادب الروسي وبداياته ومنهم بالطبع فانفيزين , ولا اعرف انا شخصيا اي باحث عربي تخصص بدراسة تلك المراحل في مسيرة الادب الروسي عندما درست في روسيا في ستينيات القرن العشرين,ولا بين طلبتنا لاحقا ولحد الآن, وكم اتمنى ان ينتبه الباحثون العرب الى ضرورة التنسيق لكتابة تاريخ الادب الروسي العريق للقارئ العربي, واذكر اني التقيت مرة ( في مؤتمر مترجمي الادب الروسي في موسكو) باحد الزملاء من الصين الذين درسوا معي في جامعة موسكو في حينها , واخبرني بانه يرأس لجنة لكتابة موسوعة الادب الروسي باللغة الصينية وان عدد اعضاء تلك اللجنة اكثر من 100 متخصص صيني في الادب الروسي .