صبيحة اليوم التالي ولما يزل بعد تحت تأثير فكرتين، أمّا النهوض تماما ومغادرة فراش نومه، أو العودة ثانية ليغفو من جديد ولو لربع ساعة أخرى حتى ينشط، الاّ أنه وعلى ما يبدو قد فشل في ذلك ولم يعد أمامه من خيار سوى حسم تردده، مقررا التوجه نحو مكتبته المتواضعة المقابلة لسرير نومه، ليستل منها أحد الكتب التي كان قد شرع في قراءتها ليلة البارحة وحتى ساعة متأخرة، وذلك نزولا عند طلب ونصيحة أحد أصدقاءه المولعين بعالم الفلسفة، رغم عدم رغبته في ذلك وإنقطاعه عن هذا العالم ولم تعد له صلة به ومنذ فترة ليست بالقليلة وياليته لم يفعل. إذن فإختياره لهذا الكتاب، لا يشبه قراءاته التي إستقر عليها. فالرجل في هذه الآونة بل ومنذ سنوات بعيدة، وبشهادة الكثيرين، يُعَدٌ أحد المتابعين المهمين والدؤبين، لحركة الأدب العالمي ومن قبلها المحلي وبكل ألوانه، وبشكل خاص المتعلق منه بفن الرواية وما يحيط بها، راصداً آخر أخبارها وما بَلغتهُ من تطور.
يبدو أنَّ قراءته للكتاب إياه وإصراره على الإنتهاء منه وبأي ثمن بما في ذلك دخوله في تَحَدٍّ مع الذات، والذي مداره عالم الفلسفة وأهم مدارسها وأبرز سدنتها ومعلميها بل وحتى صرعاتها، وما صاحبها من مفاهيم وأجواء غريبة، من بينها تلك التي لم ترق له، حيث خرَجَ منها بحصيلة مفادها، بأنها مضيعة للوقت وللجهد، وربما ستؤدي كذلك الى دفع أثمان أشد خطورة.
اللافت للإنتباه بل والأنكى من ذلك أن بدت تداعيات قراءته للكتاب جلية عليه. فبعد برهة من الوقت ومع عديد المحاولات، نجح أخيرا في إستعادة أهم ما دار من أحاديث ليلة حلم البارحة، كذلك أدَّت الى تحفيز ذاكرته، لتعود به الى تلك الأيام التي كان فيها فتيا ومع بدايات إنتماءه السياسي والفكري، وما كان يتلقاه من إملاءات وإلتزامات من قبل عليّة الحزب الذي وجد نفسه منخرطاً بين صفوفه ومن حيث لا يدري، وقد تكون لدوافع لا تخرج عن مرحلة الصبينة، يوم كان السير مع الجميع شَرٌ لابد منه.
ولأن مجريات حلمه قد حملت الكثير من الطرافة والدعابة، فستجده بين لحظة وأخرى وقد غصَّ في نوبات ضحك متواصلة بينه وبين نفسه، ولو كان أحدهم في تلك الأثناء قريبا منه أو راصدا له، لكان قد أتهمه بما شاء له من التهم وأقذعها. وما كان لها أي لتلك الضحكات أن تتوقف لولا دخول والدته المفاجئ عليه في غرفته بعد طرقها للباب ولعدة مرات، كان آخرها أن وجدت نفسها مضطرة على زيادة الطرق وبقوة، بعد أن إنتابتها نوبة من الحسابات الخاطئة والمقلقة، داعية إياه الى تناول وجبة الصباح، بمعية أخوته. أمّا ما الذي إستذكره صاحبنا وحاول إستعادته قبل أن تُطرق باب غرفته وخشية نسيانه كما حدث معه سابقا ولعديد المرات، فإليكم إياه…..
وقف صاحب الحلم بكامل قامته، بثبات وثقة، موجها كلامه على ما يبدو لمن كان برفقته في الحلم: قُلتُ لك ألف مرة أترك الأمر لي، فأنا أهلاً لحل مثل هكذا إشكال، وليس في ذلك من منةً أو ما يسبب لي حرجا، فما بيني وبين مَنْ تعنيه عقدٌ مقدّس، كان قد وُقِّعَ برغبتينا، وبموجبه سيبيح لي قول ما أشاء بصراحة وبلا قيود ومن دون مواربة أو مجاملة، ولكن (هنا بدأ صاحبنا يركّز أكثر في الكلام، حرصاً منه على ما يصدر، مصوّبا ناظريه نحو عيني مَنْ يقف أمامه) شرطي الوحيد أن لا يطّلع على ما سأقوله لك أحد، وذلك حفاظا على السرِّ إن كنت بكامل رجولتك، وإذا كنت جديرا به حقاً وأخو خيته ( هنا إستخدم مصطلحا عاميا وشعبياً، كثيرا ما يجري تداوله لإثبات مدى الأهلية والرجولة) وأهلاً لتحمل المسؤولية.
ثم راح مسترسلا: ولا أخفيك قولا، فما بيني وبين طيب الذكر وأعني هنا الفيلسوف العظيم جورج بولتيزر ألفة وصحبة قديمة وحوار مستمر. أمّا ما قاله لك البعض، بأن علاقتنا قد شابها في الفترة الأخيرة بعض جفاء، فهذا عائد الى دخول ما يمكن أن نسميه بالطرف الثالث وما أدراك ما الطرق الثالث.
عند هذه النقطة اي حين ورود كلمة الطرف الثالث، سيستدرك صاحب الحلم وليتوقف طويلاً عند هذا التعبير. ففي هذه الآونة وعلى حدِّ قوله، كثيرا ما يجري تداول هذا المصطلح بين العديد من الأوساط، وأخطرها ما جرى تحميله من أحداث وجرائم كان قد إرتكبها، وذلك بإتباع أشد الأساليب خسة ونذالة وبوضح النهار، بحق أبناء شعبنا من الوطنيين، التواقين لإحداث التغيير وبالطرق الشرعية والرسمية، والتي كان النظام السياسي الذي ينتمي إليه أبناء هذا الطرف وهو جزء منه بل ويتحكم به قد أقرَّها وتكفَّلَ بها وعززها بجملة من الإجراءات.
من ثم سيقوم صاحبنا بإستعراض ما مارسه هذا الطرف من الآعيب ودسائس وأساليب ماكرة، (لا تستغربوا هذا القول، فالطرف الثالث، يتواجد أحيانا بين ظهرانينا وفي مختلف الأوساط، وينشط كلما إستدعى الأمر)هادفاً الى إفساد تلك اللحمة الطيبة التي يتقاسمها أبناء البلد الواحد. والأخطر من ذلك هو إندساسه ومحاولة فك عرى الصداقة التي تجمعني بجورج بولتيزر، والتي على أثرها أخذت علاقتي بسيد الفلسفة شكلا متقطعا. غير اننا ورغم كل ما جرى فقد نجحنا وتمكنا أخيراً وبوعينا من تجاوز هذه العقدة والى حد كبير، وذلك بعد أن خضنا حوارا طويلا ومعمقا، سادته روح المكاشفة والصراحة والوضوح، ولنعود بعدها الى ممارسة طقوسنا التي إعتدنا عليها بين فترة وأخرى، كتبادل المعلومات والرؤى وتصويب الأعوج منها وعلى أسس من التفاهم والثقة المتبادلة.
وبعدما قدَّمه من إيضاحات حول الجهة التي يعنيها والتي وجد نفسه مضطرا الخوض فيها والتحذير منها، فها هو يعود الى أصل الموضوع الذي إبتدأه وليستمر على النحو التالي: أمّا إن شئت الحديث أكثر والتوسع في عالم الفلسفة والتي لا أنصحك التورط والدخول فيها ما دمت طري العود، فهو كما تعرف أو لا تعرف، رحب واسع، شاسع، متشعب، حاوياً جامعاً لكل أشكال والوان الثقافة والآداب والفنون والأديولوجيات ومدارسها. (هنا بدا كثير الشبه بصديقنا الأستاذ الراحل ناظم متي، في ترديد وتكرار المترادفات من الكلمات).
ثم راح مواصلا، مستعرضا ملكاته في هذا الجزء من المعرفة: وهو أيضا أي عالم الفلسفة، يُعدٌ البوتقة التي تنصهر فيها كل العلوم الإنسانية الأخرى، ويُعّدٌ القاسم المشترك الأعظم وذلك بإعتراف كبار القوم وكل مَن له صلة به. وبسبب تنوعه وإمتداداته وإستيعابه لمختلف المجالات، فمن الصعوبة بمكان على المرء والمتتبع له بوجه خاص، أن يضع له حدوداً أو سقفاً للتوقف عنده، لا سيما ونحن نعيش على وجه كوكب مترامي اﻷطراف وغير متناهٍ. هذا إن إقتصر اﻷمر على جُرمنا الفضائي الذي نعيش فيه، فكيف سيكون أفق عالم الفلسفة فيما لو تمَّ إكتشاف كواكب أخرى خارج مجرتنا.
في هذه الأثناء وبينما صاحبنا لا زال متحمساً في حديثه، حريصا في تركيزه على آخر الكلمات، محركها بلغة إعرابية صحيحة، سيحسده كل مَنْ يطلع عليها أو يصغي لها. الاّ أنَّ الطرف المتلقي حاول خلالها غض الطرف وللحظات وبطريقة بدت إستفزازية لمن يطلقها وربما جاءت بعفو خاطر أو لأمر طارئ غير مسؤول عنه، أو لأنه لم يكن على درجة من الإستيعاب ليتقبل هكذا لغة وبهذا الثراء والغنى، غير أنَّ صاحبنا أقدمَ على نهره بسبب تصرفه هذا والذي عدَّه تجاوزا على قدراته اللغوية، وليوجه له كلاما أقرب الى الملامة والتوبيخ منه الى العتاب.
وفي مشهد آخر من الحلم، ستجد صاحبنا وفي تصرف غير متوقع منه، متناولا أحدهم، مستغيبا إياه. أمّا ما سبب ذلك، فمردَّه وعلى أغلب الظن، يعود الى خلافات قديمة، كانت قد نشبت بينهما على اثر حوار ساخن دار بينهما، وظلَّت آثاره عالقة في ذهنه. ولأنه على أهمية إستثنائية بالنسبة له فقد إمتدت تداعياته لتخترق حتى عالمه الداخلي ولتتجلى على هذا النحو: قلت لك ألف مرة بأنَّ فلان (هنا وكما يبدو لم يأتِ على ذكر إسمه، وربما تعمَّدَ ذلك، بهدف التقليل من شأنه) ورغم جرأته التي يتميز بها عن الكثيرين من أقرانه، وكذلك إستعداده الدائم وفي الكثير من الأحيان والمناسبات على المواجهة وخوض كل أشكال المنازلات الفكرية، الاّ انه وجد نفسه هذه المرة واهناً، إذ لم يستطع التشعب في حواراته على ما عهدناه منه، كذلك لم يكن قادراً على مجاراة خصمه والتنقل معه من موضوع الى آخر. انه الخواء الروحي بعينه، الا تتفق معي، وإن لم يكن كذلك فماذا تسميه!!.
وإستمرارا لإستعادة حلمه، فسيتذكر صاحبنا شخصية أخرى، لم يكن قد إلتقاه ومنذ ما يزيد علىالعشر من السنين، أمّا كيف راوده في حلمه فهذا ما لم أجد له تفسيرا، المهم فقد كانت صورته على النحو التالي: على خطى بعض من أولئك الذين سبقوه وربما تقليدا لهم، فهو والليل وفي أيام العطل الرسمية بشكل خاص على صحبة ومسامرة دائمة ولم يكن من السهولة عليه فك آصرتها، فمثلما الندامى وعشاق أغاني أم كلثوم وخاصة محبو أغنية سهران لوحدي، من الذين لا يروق لهم المدام الاّ بعد إنبلاج خيط السَّحَرْ، فصاحبنا وَجُلَّ أفكاره لا تتفتق وتأتي الاّ بالتزامن مع ساعات الليل المتأخرة، أو إن شئت القول مع بزوغ ساعات الفجر اﻷولى. بل حتى تجده أحياناً يشاغل نفسه في تزجية الوقت وتمضيته، بهدف تأجيل البدأ بسهرته وطقوسها لبعض الوقت، منتظراً بلهفة وشوق إشتداد حلكة الظلام. ما حيلتنا فالرجل هذه طباعه، إتفقنا معه أو إختلفنا.
ومن أبرز اللقطات التي إستقرت في ذهنه والتي سيستعيدها عن ليلة الحلم، هي العودة من جديد الى سيرة عدد من الشخصيات التي لعبت دورا مهماً ومصيرياً في رسم معالم الإنسانية وفي تحقيقها لقفزات نوعية في مسيرتها وعلى مختلف الصعد، إن كان على المستوى الفني أو السياسي أو الفكري بل وحتى العسكري. في لحظات كهذه وبينما هو منهمك في تذكُّر بعض الأسماء التي يجلّها، أراد التوقف عند إحدى الشخصيات التي يكنٌ ويحفظ لها قدر عالٍ من الإحترام، الا وهو رئيس وزراء العراق الأسبق والمعتق نوري باشا السعيد على الأرجح، غير أنَّ صوت أحد الجيران ونزاعاته المستمرة مع زوجته وفي مختلف الأوقات، قد أفسد عليه ما إنتواه، وصعب عليه تذكره وبإسمه الصريح وليكتفي بما كان ينادى به آنذاك من تسمية وهي أبو صباح، رغم ما يمتلكه عن شخصيته من معلومات تفصيلية ثرية، إذا ما استثنينا منها بعض من جوانبه السلبية.
كذلك ما لديه من سجل غني عن سيرة الرجل كتحمَّله مسؤولية رئاسة الوزراء ولأكثر من عشر دورات، وبما يمتاز به من نزعة مدينية متحضرة، إن كان على مستوى التفكير أو السلوك أو الهوى، وهذا ما سيُسجَّل له ويوضع في خانات حسناته، وهو ما تفتقر اليه أكثر الزعامات ممن قُدِّرَ لها قيادة البلاد من بعده وعلى مختلف الحُقَب السياسية. ويتذكر أيضا تخرَّجَه من الكلية الحربية في إسطنبول برتبة ضابط. غير أنه وبمجرد إقترابه من الإسم ومحاولة تذكره الاّ انه وللأسف سيفلت من ذاكرته من جديد، لذا قرر طوي هذه الصفحة، والإنتقال الى شخصية أخرى.
هنا سيتوقف مطولا عند إسم آخر، حيث يعدٌّه أكثر لماعاً من تلك التي سبق أن جاء على ذكرها. إذ فرض حضوره عليه بل وعلى غيره كما يجزم. إنه الفيلسوف الكبير جورج بولتيزر، فما بينهما كما سيترشح من الحلم صحبة قديمة، تعود بجذورها الى بدايات تعرفه على عالم الفلسفة، ويجمع بينهما أكثر من عهدٌ ووعد. تعززت وتقوَّت فصولها بالمعرفة وفي خوض صراعات فكرية حامية الوطيس مع الآخرين ومن موقع المعسكر والجبهة الواحدة، كذلك في قدرتهما على قراءة المستقبل وما تخبأه الأيام، ليأتونك بالتوقعات ومن حيث لا تدري. ثم سيمضي مسترسلا في إستعادة حلمه: صحيح إنَّ ما يفصل بعضنا عن بعض فارق كبير من السنين، قد تمتد عقوداً بل هي حقاً كذلك، الاّ ان ذلك لا ينفي أو يحجب عنا تبادل الأفكار والخواطر بل وحتى البوح بالكثير من الأسرار فيما بيننا.
وقبل أن يواصل سرد حلمه مع نفسه وما ظل عالقا في ذهنه، فقد راح مرتشفا نصف قدح الشاي المتبقي ومنذ ليلة البارحة والموضوع أمامه على الطاولة وبجانب الكتاب الذي شرع بقراءته وقضى على ما يزيد عن نصفه. أمّا ما قاله فهو الآتي: ولكي نكون منصفين وواقعيين، فما يصلنا من معلومات وما نكتسبه من معارف، ربما تكون قد وصلت غيرنا ومن قبل وصولها الينا، وبالتالي ستظهر العديد من الحقائق التي لم نكن على اطلاع عليها، وفي ضوء ذلك، ستخرج علينا الكثير من التحليلات والإستنتاجات. كذلك ومن غير المستبعد أن تكون أكثر تطوراً أو سابقة لزماننا، وقد نجد أنفسنا مجبرين على التفاعل معها واللحاق بها، وقد يصعب علينا إدراكها أو حلَّ ألغازها.
(ملاحظة مهمة عن الفقرة أعلاه، فقد راح صاحبنا متناولا قلما ودفترا ليشرع وبعدما أعجبته تلك الكلمات التي خرجت منه قبل لحظات، ليقوم بتدوينها وعلى وجه السرعة ، خشية إنفلاتها من ذاكرته).
ولابد هنا من التأكيد على أن ما جاء ذكره في العبارة السابقة والموضوعة بين قوسين تحديداً، تمثل جوهر الموضوع الذي لا يريد ولا يرغب بل لا يجرأ صاحبنا الإفصاح عنه. فعدد قليل جدا ربما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، كما يقول، سيستقبل ويستوعب أمراً كهذا. وإذا ما أبحتُ به وكشفت عنه وصار في متناول اليد، فلعلي سأتحول الى موضوع للإتهام والتندر من قِبَل( شعيط ومعيط)، وقد أُرْجَمُ بالغيب وبما يروق لهم، وهذا ما أعتقده بل أكاد أجزم به. فالساحة وللأسف باتت تعجٌ بعقول أقل ما يمكن وصفها بالنتنة، فما حيلتك والغباء الذي بات بالنسبة لهؤلاء يُعَدٌ وجهة نظر، نعم وجهة نظر، إن لم يحسبونها موهبة يتفاخرون بها، بل يظن حاملها بأنه واقع تحت تأثير الحسد والمراقبة، لذا راح معلقا وعلى أحد جدران بيته وفي غرفة الإستقبال تحديداً، تلك التميمة والتي تسميها العامة بأم سبع عيون، درءاً وطردا للمتربصين بـقدراته، كما يتوهم.
عتبي عليك طويلا يا صاحبي، فما كان قد ضّرَّكَ ( موجهاً كلامه الى بولتيزر والى روحه الطاهرة كما إعتاد أن يطلق عليها) لو تَركتَ وصية بجملة واحدة وليس أكثر، صريحة التعبير مباشرة ولا تقبل اللبس أو التأويل وواضحة الدلالة، لكنت قد قطعت الشك باليقين، ولأكون خليفتك على الأرض من بعدك في عالم المعرفة، ولتضع حداً وتتوقف من بعدها كل تلك التفسيرات والإجتهادات التي ذهبت بآرائها وتحليلاتها الى مذاهب شتى، فمنهم مَن قال أنا الأولى بها من بعد رحيله، وآخر قال بل أنا، وثالثهم يَصرُّ على انه سليل تلك العائلة التي أنجبتك، لذا وأمام هذا الرهط من القطيع، فلي كامل الحق في ولاية عرشك الفلسفي، وأزعم أني الأحرص منهم جميعاً في الدفاع عن تلك المبادئ والأفكار التي كُنتَ قد حملتها بشرف، وجئت مبشرا بها ونذيرا.
وإستكمالا في محاورة الذات ولكن على نحو مختلف هذه المرة: كي نكون منصفين فلا بد من الإشارة هنا الى أنَّ جورج بولتيزر طيب السيرة والذكر، وحرصاً منه في الحفاظ على جذوة أفكاره، وبهدف تطويعها وتطويرها وبما ينسجم وتغيرات العصر من بعده، فقد فكَّر ملياً وبمناسبات عديدة في أن يُولّي أمر خلافته الى أية جهة أو شخص، شريطة إمتلاكهما اﻷهلية الكاملة، ليقوما من بعده بحمل تلك الرسالة التي كان قد ابتدأها. آملا أن يجري نشرها وإيصالها لأوسع قاعدة من الناس وعلى محتلف الساحات. الاّ أنّه ربما يكون قد أخطأ أو تردد ولم يستقر على رأي بعينه، وقد يكون مردَّ ذلك ما مرَّ به في حينها من ظروف طارئة صعبة وعصيبة، مَنْ يدري! لذا لم يحدد بشكل واضح وصريح عن طبيعة الشخص أو الجهة التي ستتشرف بهكذا مهمة وتكون أهلاً لتحمل وزرها من بعده.
ثم راح أبو داود مضيفاً في سرِّه أيضاً رغم جلوسه في عتمة الغرفة وحيداً بعدما أحكم غلق ستائرها عن مصادر الضوء: لا أظن أن الطوفان سيحدث لو ألمَحتَ على اﻷقل يا صاحبي ( يقصد هنا بولتيزر)، أو كنت قد أعطيت بعض المؤشرات التي تؤدي باﻵخر ﻷن يتوفر على قناعة قاطعة، يمكنها أن تساعدني في الدفاع عن موقفي وتحملي بالتالي شرف المسؤولية، أنا فلان إبن فلان، الملقب بالعارف، ﻷكون خليفة من بعدك وليس من أحد سواي، وكفى المختلفين شر التنافس والتنابز، ولأغلقت الموضوع برمته وجنَّبتنا القيل والقال، ولكنت قد أسكتَّ كل تلك الأصوات النشاز المدعية بالمعرفة، أمثال ذينك الصبيين، النابتي الزغب والعقل ومَنْ لفَّ لفهما. ولكن لا بأس فقد آليت على نفسي تحمل وزر هذه المسؤولية، متشرفا القيام بها، وها أنا ذا، ناذرا عقلي وقلبي لها( واللي ما يعجبه خلي يطخ راسه بالحايط)، وسأحاول بذل ما أستطيع، من أجل المضي في حمل رسالتك حتى إيقاد كل الشموع وفتح كل ما أمكن من العقول المغلقة المتحجرة، بل سأزيد الطرق على رؤوسها وبكل ما اوتيت من قوة، علَّها تستجيب للغة العصر.
(في لحظات كهذه، أنا الراصد لما صدر عن هذا الرجل أي من صاحب الحلم فيما يتعلق بجورج بولتيزر ومواضيع أخرى، لا أستبعد أن يكون قد خرج بها تحت تأثير الأرق الذي أصابه ليلتها وأدى الى حرمانه من النوم وما ترتب على ذلك من تعب وإرهاق وضعف تركيز. ولقراءته كذلك لذلك الكتاب اللعين والذي يحمل عنوانا فلسفيا، المعقد جداً في أفكاره ومحتوياته ولغته. أو بسبب تلك الصراعات الفكرية التي كان يخوضها مع الآخرين، أو لتلك العوامل مجتمعة، لذا فلنغفر له زلاّته إن كانت كذلك، فالرجل ورغم القيل والقال، سيبقى طيبا وصادقا في نواياه. وقبل الختام، الا تعتقدون ورغم كل الملاحظات التي سيقت بشأن ما ذُكِرَ، بأنه قد أصاب في بعضها ووضع الأصبع على الجرح!!!.