22 ديسمبر، 2024 11:23 م

فالح عبد الجبار لمسات تاريخية لا ترحم

فالح عبد الجبار لمسات تاريخية لا ترحم

في ندوة اكاديمية حول فكر الفيلسوف السوري (صادق جلال العظم) في العام 2017، قدم الدكتور (فالح عبد الجبار) مداخلة مهمة للغاية، تناول فيها (العقلانية النقدية والدين) لـ(صادق جلال العظم) بعد نصف قرن. اضافة لبحثين آخرين لنفس الكاتب وهما مقال نشر في مجلة (ساوث ايشيا بولتن) عام 1993 وكراس (النزعة الاسلامية الانسانية وخطابه)، معتبرا ان ما يقوم به ليس نقدا لفكر صادق جلال العظم، وانما (لفكر جيلنا كله، أوهامنا، آمالنا، وتصوراتنا).
ابتداءا جميع اعمال (صادق جلال العظم) نقدية، فهو لا يهتم بالتأسيس الا من خلال النقد، هناك من يؤسس ولا ينتقد، (صادق جلال العظم) ينتقد ويؤسس. وهذا جزء من التراث الفكري الغربي، نحن لدينا النقد محصور بالفرق الدينية وتكفير وليس نقد. من (كانط) الى (مارس) ومن (هيغيل) الى (نيتشه)، ومن مدرسة (فرانكفورت) الى (هيبرماس). هناك تراث نقدي في فرنسا وغيرها مثل التقاليد الالمانية. صادق جلال العظم تشبع بهذا الجو واظن الكثير من الكتاب العرب تأثروا بهذا الجو النقدي.
كتاب (نقد الفكر الديني). حقيقة له تاريخ خاص، بالمعنى النقدي والتأسيسي ايضا، فهو هدم وتأسيس. والكتاب يحتوي على خمس مقالات:
المقال الاول. نقد الفكر الديني.
المقال الثاني. مأساة ابليس. اسطورة ابليس.
المقال الثالث. ظهور العذراء في مصر.
المقال الرابع. الفكر الغربي المعاصر.
المقال الخامس. مدخل الى التصور العلمي المادي للكون. وهو انتقال من العلوم الطبيعية، ومن النظرة الميكانيكية الى ما يسمى بالنظرة الديالكتيكية.
لا توجد وحدة في المواضيع اذن. هو تجميع لمقالات عديدة، ثلاثة منها تتعلق بالتراث العربي، نقد الفكر الديني، مأساة ابليس، وواحدة منها تتعلق بالوضع السياسي العربي آنذاك (هزيمة حزيران) ظهور العذراء. المقالان الاخران، ثقافته اوربية. ولكن هناك وحدة في المنهج النقدي. لننظر الى هذا الكتاب. أنا اسمي هذا الكتاب هو (النظرة الى الاسلام العقائدي من منظور العقلانية الاوربية المقارنة)، بمعنى أوروبا هي النموذج وهناك مقارنة مع العالم العربي.
أولا. في لمسة للتاريخ لا ترحم، نلاحظ لغة المقدمة شاخت. ماذا يقول فيها؟ يتحدث عن حركة التحرر الثورية العربية المعاصرة، حركة الطليعة، قوى التقدم… الخ. الحديث كله يمحور حول، نحن سائرون الى الامام. عن أي ثورة عربية كان يتحدث؟! كل هذه أوهام (صادق جلال العظم) وأوهامنا، نحن شاركنا في خلق هذه الاوهام، بعجلة في التحليل، بسطحية في التحليل، أو من خلال التفكير الرغائبي، سموها ما شئتم، لكن هذا الكلام يفيدنا بشيء (عندما نقيم وضع ما، علينا ان نحترس على الاقل، ان ندرس التجارب التاريخية وننظر بإمعان). أنا اعتقد الفرح الكبير من الانتقال من مرحلة الى مرحلة يشيع عادة قدرا من التفاؤل، رهيب، الى درجة يعطل التفكير النقدي. هذا حصل لمفكرين كبار، مثلا صعود (هتلر) في المانيا أذهل الكثيرين، مثل (كارل شميت) المفكر الكبير الذي انتهى في النهاية أن يحب الديكتاتور ويؤلف كتاب عنه. أو ينتهي (بهايدغر) أن ينتمي الى الحزب النازي، عقلان كبيران في ذلك الوقت.
اقول لا اشبه انفسنا بهؤلاء، لكن نحن أيضا فرحنا بالتحرر من الاستعمار، ونسينا الاستبداد السياسي الذي سيتمخض عنه. كلنا، (جيلنا والذي قبلنا)، كنا نطالب، كنا نطالب بالديمقراطية، نطالب بالمساواة من جهة ونلغي اساسها الموضوعي، الذي هو السوق الحر الذي كان موجودا. بالعكس صرنا نخلط بين السياسة وخدمة الناس، العاطلين عن العمل، وبين ملكية الدولة للاقتصاد، التي دمجت السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، التي انتجت الاستبداد. أنتجت حزب البعث في العراق وحزب البعث في سورياـ فأقول المقدمة شاخت، وشيخوختها بحد ذاتها درس لنا، كنوع من التذكير، وهذا الكلام كنت اتمنى لو يكون (صادق) موجود معنا، وهو واعي بهذا المطب التاريخي الذي وقعنا فيه جميعا، الآمال الكبيرة الزائفة. وهذه لمسة اولى للتاريخ لا ترحم.
اللمسة الثانية التاريخية. نقد (صادق جلال العظم) للدين هو نقد جوهري، وما يزال رصين ومطلوب وسيظل معنا. نقد الفكر الديني اساسي وجوهري، لكن تفاؤله بقرب زوال التفكير الديني وما كان يسميه (ماكس فيبر) بـ (زوال سحر العالم)، كان تفاؤل مبكر، هو تفاؤل تاريخي لكن ما يزال تفاؤل، (فالفكر الديني لم يتراجع) بعد ظهور العذراء، فقد جاءتنا القاعدة، بعدها طالبان، ثم داعش وخليفة عراقي، أرجوكم بسخرية واضحة (لا يتحدث احد عن خليفتنا المفدى حفظه الله من كل سوء، احد الحاضرين (مبروك) ليأتي الرد من فالح (شكرا، وهذا فشل للسوريين، نحن لدينا خليفتان وانتم ليس لديكم خليفة، اتعجب كل هؤلاء المفكرين وليس لديكم خليفة).
اللمسة الثالثة للتاريخ، التي لا ترحم. هي المقدمات الفلسفية الأبستمولوجية لـ(صادق جلال العظم) تقوم على مقارنة اوروبية، وانه يوجد تطور خطي في المنطقة، وهذه الفرضية غير صحيحة (وهو يعرف هذا). هذا لا يعني ان المقدمات الاوروبية لنقد الدين غير صحيحة بل العكس، أساسية، ولكن الاعتقاد باننا ازاء مسار خطي مماثل للمسار الاوروبي غير صحيح. ماذا سيكون المسار في المنطقة؟ أنا لا اعرف، هذا يحتاج لبحث أمبريقي (تجريبي).
الملاحظة الرابعة والاخيرة، حول كتاب (نقد الفكر الديني) أن (صادق) أهتم بالمنظومة الفكرية أي بالبعد الأبستمولوجي للدين، في هذه المرحلة، ثم في مرحلة لاحقة سيهتم بالحركات السياسية، أو بالبعد السياسي للدين، بينهما شيئان، فهو لم يهتم بالمؤسسة الدينية ولم يهتم بالدين الشعبي. هذان الموضوعان يخصان علم الاجتماع، هو له قرابة مع الفلسفة السياسية لكن هذان الحقلان غائبان كلية عنه. هذا يعني ان على الباحثين والمفكرين العرب ان يساهموا لملئ هذا الفراغ. ليس المطلوب منه عمل كل شيء وهو كان يعرف هذا، نحن الكسالى، هذه المساحات الفارغة يجب ملؤها.
ننتقل من النقد الابستمولوجي للدين الى نقد الحركات السياسية. الدين ليس فقط منظومة اعتقاد. الدين مؤسسة تنتج هذه المنظومة، وهي تنتج ما يسميه (صادق جلال العظم) الاسلام التاريخي، فهناك اسلام عقائدي كما يتصور في العقيدة، واسلام تاريخي كما يتطور في المكان والزمان.
عندما ينتقل لدراسة الاسلام التاريخي يدخل في مقالين، الاول عن الاصولية الاسلامية، ويحاجج فيها التصورات الغربية عن الاسلام الاصولي وانا لن ادخل في هذا، لكن ادخل في رأيه بـ (الخميني) ويقول هذا اسلام ثوري ويقارن الخميني بـ (كاسترو) وصراحة (أنا رجفت عندما قرأت هذه المقارنة)، فـ (كاسترو) وان كان يساري، غير انه لم يكن ديمقراطي، نحن انتجنا الاستبداد، الماركسية الطرفية السوفيتية انتجت الاستبداد، نعترف بهذا، والى الان (بوتين) يحاول ان يعيد انتاج الاستبداد بشكل او باخر. بالنهاية ما اقامه (الخميني) هو استبداد ديني، حكومة ثيوقراطية كيروسيه، عداؤها لأمريكا، للإمبريالية، كونها نقيض للشاه، في هذا التقييم، الأبستمولوجيا الدينية ونقد الدين غائب كليا لصالح الموقف السياسي. المثال الآخر، (تركيا) في كراس (النزعة العلمانية والاسلام)، وهو جاء على شكل خطاب في تكريمه في هولندا، خطاب أقرب للبحث، فهو (خطاب) مكتوب وليس كلام. نقرأ حديث عن اقتران حزب العدالة والتنمية بالديمقراطية مع اشتراطات وهو يعرف اين يتجه (اردوغان)، هو يتجه الى نظام الحزب الواحد المستبد.
هناك خرافة في العالم العربي، قبول (اردوغان) بالديمقراطية ناجم عن وجود تقاليد علمانية عميقة في تركيا، وجود المؤسسة العسكرية، كان يخاف من هذه المؤسسة وتقاليدها العلمانية. هذا التنازل ليس جوهري بالحركة، هذا تكيف اضطراري (براغماتي) بمعنى ان الضغوط اذا خفت هو ايضا يخفف القيود واذا زالت يزول. انا اقول هذا لكي ادعوا الباحثين الى خلاصة ان نقد (صادق جلال العظم) للدين هو نقد جوهري.
نحن أحوج الى العلمانية، (صادق جلال العظم) لم يتناول العلمانية هو تناول العقلانية، العلمانية تتحدث عن المؤسسة واذا كان لي ان الاحظ شيئا هنا، فإن العلمانية في الغرب كانت تدعو الى فصل المؤسسة (الكنيسة) عن الدولة، فالكنيسة كانت مالك كبير للأراضي، ومالك لمؤسسات التعليم، مهيمنة على الشرعية السياسية، تنتج الشرعيات. نحن المشكلة عندنا هيمنة الدولة على المؤسسات الدينية، عندنا الحال معاكس، فالدولة تستخدم هذه المؤسسات لتأييد سلطتها بشكل او باخر. لذلك وجدنا فجأة (السادات) يصير الرئيس المؤمن ويضع العمامة على راسه، والنميري يصير الرئيس المؤمن، وباستهزاء واضح يقول فالح عبد الجبار عن النميري (يكرع الجوني ووكر في الليل) ويصلي في الصباح.
دعوني اخلص في هذا العرض الى ان نقد (العظم) للدين ما يزال جوهري وقائم، وهو جزء من ثلاث اسهامات فكرية مهمة، اعتبرها الكتب التأسيسية لمفهوم العلمانية والعقلانية في العالم العربي، وأنا سعيد ليس بقراءتها فقط وانما بالتعرف على اصحابها. الكتاب الثاني وهو للعظمة الجالس جنبي الان (العلمانية من منظور فلسفي آخر). الكتاب الثالث (القبض والبسط) لـ (سروش).. ويقصد التقييد، والانفتاح في الشريعة، (سروش) درس فلسفة العلم، أما (صادق جلال العظم) لم يدرس فلسفة العلم. مقاربة سروش كانت من زاوية فلسفة العلم، وهي مقارنة ذكية جدا، ولها خصوصية ايرانية، للأسف حصل سوء تفاهم بين (سروش) و (صادق) وانا اعتبر سروش مكمل لـ (صادق).
يرى سروش (أن الدين هو فهم الدين) ولكن فهم الدين يتطلب معرفة:
علم اللسانيات
علم التاريخ
علم الاجتماع
علم الانثروبولوجيا
علم الكون
بدون معرفة هذه العلوم لا يمكن فهم الاطار الديني، وهذه في نظري مدفعية ثقيلة ضد رجال الدين في ايران، لانهم لا يعرفون هذه العلوم. الرئيس الايراني السابق عمل امتحان لـ (20) عشرون الف ممن يحملون لقب اية الله، وهذه تعادل شهادة الدكتوراه، أما اية الله العظمى فتعادل بروفيسور. الامتحان كان باللغة العربية، لذلك لم ينجح سوى مئات. حتى الخامنئي نفسه سأل مرة (ما رأيك بإنتاج فلم عن الامام الحسين؟) أجاب (لا مانع لدينا مع الاحتفاظ على القضية الاصلية)، وهو هنا لم يميز بين الحفاظ والاحتفاظ. الاحتفاظ بالشيء، اما الحفاظ فتعني أن لا تسيء له.
هذا الاشتراط الذي وضعه (سروش) يعني أن سلطة رجال الدين لا اساس علمي لها، ولذلك طرد، بالمناسبة (سروش) شديد الايمان، وهو ورع جدا، لكنه كان يريد تحويل الدين الى شيء فردي، وليس مؤسسة.