ولدت الناصرية من فرمان الوالي العثماني ، ولكنها عاشت بنبض شريان منتفجي لرجل حين أتته سكرات الموت في واحدة من ليالي البصرة في العام الميلادي 1907حيث دفن بمهابة قومه وتوديعهم في مقبرة الزبير ، ليهمس لجلاسه المنتحبين لرحيل واحد من اوتاد خيام السعدون : لقد تركت لكم مدينة ، فخرها ليس لأنها حملت أسمي حتى الأبد البعيد ، بل لأنها ستكون جنة للحلم والفضيلة وجمال صنعة الكلام والروح.
ولدت الناصرية من طغراء وختم الوالي الأصلاحي مدحت باشا وتواقيعه الممهورة بأسمه وبحروف عثمانية ، وحين استشار قضاته وكبار موظفيه عن الذي يناسب هذا المكان في الأدارة فأشاروا اليه ان اهل العريكة والانتشار هم شيوخ عشائر المنتفك ، واتوا له بالأسماء فقال نختار الاشقر منهم . ناصرهم فلقد خبرته حكيما او قبل ان يكون محاربا ، والمدن تبنى بالحكمة قبل أن تبنى بالدان وبالسيف .
وبمرسوم حظي بموافقة الأستانة اتى اليها الشيخ الأشقر ، وحتى يجعل لضيفتيها مودة اقام الجسر الخشبي فيها ، وبنى السراي ومن ثم ذهب برسله وجواده الى العشائر المحيطة بالمدينة الصغيرة ليغريهم في سكنها ، ورويدا رويدا زحفت اليها احلام طالبي الرزق في بناء ابوابها وسورها الاول ومن ثم لحقهم من بات يعتقد ان التمدد قد يوفر رغيد العيش ، لكنه قبل هذا اعتمد في تحضرها على عوائل متعلمة نزحت اليها من ولايات بعيدة واهمها من بغداد والسليمانية والحلة والبصرة .
أعطى الامارة خلافة من بعده لولده الأمير فالح ناصر باشا السعدون
بنى فيها جامعين ، الكبير الذي مازال قرب مبنى البلدية الذي تهدم ، ويسمى جامع فالح باشا الكبير ، والصغير الملاصق لسوق سيد سعد والقريب من بيت المرحوم الشيخ نور .
هاذان المكانان هم مابقيا من اثر يشيران الى اسم ثاني متصرف لمدينتنا ومع المكانين يأتي الاسم الاسطوري الساحر ( الناصرية ) ليمضي هذا الاسم يسري مع ابدية الزمان والامكنة اينما يكون الابناء ، خطوات على ارصفة الحبوبي او خطوات في شارع الشانزلزيه او سوق في برلين أم مهجر شامي ، فأنكَ عندما تقول أنا من الناصرية يأخذ سامع الاسم منك اطياف مدينة سومرية اتشحت برايات جنود جبهات الحروب الشهداء وصدى مواويل الاغاني المدمجة بعطر الدمعة والروح منذ ايام شخير سلطان وداخل حسن وحضيري وناصر حكيم وحتى حسين نعمة .المدينة ولد من رحمها الحالم والعالم والمعلم وعامل الطين وكاتب القصدة وسادن الجامع وعاشق حنين عاشوراء ومحطات سياحة الروح .ويبدو أن اجفان متصرفها الثاني كانت في امنيتها ان تكون هذه المدينة بهذه السعة من الوجدان والاسطرة ، فلقد ارسى لها نظما مدينة ثم غادرها الى متصرف اخر وفي وصياه اقوال في معناها حكمة واحدة :لقد اردتها لتكون فيئا ووسادة لتعب الناس ، فالمدن الخالدة هي من توفر لتعب الحياة الراحة الازلية .
ولهذا كل ابناء الناصرية يدركون ان الراحة الازلية في حياتهم هي الناصرية اولا ، مقاهيها ، درابينها ، دور عرض السينما ، اسواقها ، مدارسها ، جوامعها ، ومسنايات شواطئها التي اختفت لان السلطان العثماني الجديد قرر ان يشح بماء المنيع عن ابناء سومر .في عيون فالح الأبن لمعان ضوء شموس الصحراء المنعكسة على ملامحه لأنه واجداده وسائر قومه كانوا من رهبان فلسفة الرمل وذلك المطلق التي تسابق فيه خيولهم الريح والغيوم وكل متغيرات الازمنة التي تعودها لمواسم الصيد او صد غزاة يأتون الى ديارهم من جهة والي بعداد او البصرة او اقوام الجزيرة العربية.
الشيخ فالح باشا السعدون ثاني متصرف للمدينة التي نؤسطرها وتؤسطرنا كل يوم ، وفي كل هدأت ليل حتى من دون ان نعلم اجفننا تدعو بالرحمة لذلك الرجل العظيم.