18 ديسمبر، 2024 7:05 م

فاكهة المجالس الرديئة

فاكهة المجالس الرديئة

منذ يوم أمس وحتى اللحظة والفيس بوك _ وقد يكون مواقع أخرى للتواصل الإجتماعي أيضا _ ينقل لنا من على الصفحات الشخصية أو الكروبات هجوما لاذعا ومقززا على رجل معمم بعمامة سوداء ويلبس زي رجال الدين، وهو يشتري مصوغات ذهبية غالية من أحدى محلات صاغة الذهب، ومعه أمرأة _ قد تكون زوجته أو من أهله _ والمبلغ المدفوع ثمنا لهذه المصوغات الذهبية هو بحسب ما ذكر في المنشورات، أكثر من 31 مليون دينار بقليل. وقبل الدخول في عرض الموضوع، لا بأس من التعريف بالغيبة، والتطرق إلى بعض ماورد من النصوص الشرعية التي نهت عنها بطريقة واضحة لا لبس فيها.
ما هي الغيبة؟ المستفاد من الروايات أن الغيبة هي: “ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصاناً في العرف، بقصد الإنتقاص والذم”. ففي رواية عن أبي ذر رضوان الله تعالى عليه: “قلت: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذِكرك أخاك بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته”. وورد في الحديث النبوي الشريف: “هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذِكرك أخاك بما يكره…”. والمقصود من الأخ هو الأخ في الإيمان لا النسب، و”ما يكره” تعبير عن كل ما فيه نقص عرفاً. وما ذُكر في التعريف “بقصد الإنتقاص والذم” مستفاد من مضمون الرواية وإن لم تذكر ذلك بشكل صريح. وليس شرطاً أن تكون الغيبة باللسان، فيمكن أن تشمل ذكر عيبه من خلال الكتابة أو الإشارة أو غيرها من وسائل التعبير، ما دام ذاكراً للعيوب قاصداً للإنتقاص، وهو واضح في رواية عن عائشة قالت: “دخلت علينا امرأة فلما ولّت أومأتُ بيدي أنها قصيرة، فقال “صلى الله عليه وآله اغتبتيها”. إن حرمة الغيبية تعد من بديهيات الفقه، وهي من المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة. إن لهذه الخطيئة الكبيرة في عالم الغيب وراء حجاب الملكوت، صورة قبيحة وبشعة تفضح الإنسان في الملأ الأعلى أمام الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين. هذه الصورة البشعة التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾(الحجرات:12). إن لأعمالنا صوراً وأشكالاً تناسبها ستظهر بتلك الصور والأشكال لتعود إلينا في العالم الآخر، والمغتاب يضاهي الكلاب الجارحة في افتراسه لأعراض الناس ولحومهم، وسيظهر بهذه الصورة كلب ينهش لحم ميت في نار جهنم. وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجم الرجل في الزنا، قال رجل لصاحبه: “هذا أُقعِص كما يُقعَص الكلب، فمرّ النبي معهما بجيفة، فقال: إنهشا منها، فقالا: يا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال: ما أصبتما من أخيكما انتن من هذه”. إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد شاهد بما لديه من قوة نور البصيرة النبوية الغيبية عمل المغتابين وعرف أن جيفة الغيبة أشد نتانة من جيفة الميتة، والصورة الحقيقية للغيبة أشد قبحاً وفظاعة من صورة الميتة المتفسخة. وفي رواية أخرى أن المغتاب يُأكل من لحمه يوم القيامة فقد روي عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام: “اجتنب الغيبة فإنها إدام كلاب النار، ثم قال: يا نوف كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة”. وقد يكون معنى الروايتين أن المغتاب سيصاب بأمرين في جهنم: فمن جهة يكون على صورة الكلب فيأكل الجيفة، ومن جهة أخرى يكون على صورة الميتة تأكله كلاب جهنم أيضاً، وفي عالم الآخرة يمكن أن يكون للموجود أكثر من صورة وشكل كما هو محقق في محله. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: “ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان”. إن من يخرج من ولاية الله تعالى ويدخل في ولاية الشيطان، لا يمكن أن يكون من أهل النجاة والإيمان. إن من يؤمن بالله ويصدق بيوم الجزاء ويعتقد أن أعماله ستطارده يوم القيامة وتحشر معه، لا يقترف موبقة كبيرة، تقوده إلى شر المصائب التي هي نار جهنم. فالمغتاب آمن بلسانه ولكنه لم يخلص في قلبه كما هو مستفاد من رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم…”. وبالعودة إلى قضية الرجل المعمم، والذي ظهر في فيديو من على مواقع التواصل الإجتماعي، وهو يشتري مصوغات ذهبية لأهله، ومن خلال نظرة سريعة على المنشورات والتعليقات على هذه الصفحات، نجد أن الواقع المر للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وو… الخ، قد القى ظلاله عليها فجاءت لتعكس صورة من الغضب الشعبي العام على مايحصل في العراق من مصائب وكوارث نتيجة سوء وفساد الطغمة الحاكمة من الأحزاب والتيارات السياسية الفاسدة، والتي بعضها أحزاب دينية يقودها من يدعي التدين. مثلما هناك أحزاب وتيارات علمانية كثيرة فاسدة في السلطتين التشريعية والتنفيذية منذ سقوط النظام المقبور وحتى اللحظة. وهكذا أصبح هذا الرجل المعمم كبش فداء تصب عليه اللعنات من كل مكان، بعضها لناقمين على الوضع العراقي السيء بكل مفاصله، وبعضه ساير أصدقائه في التعليقات من دون وعي أو تفكير، بطريقة حشر مع الناس عيد، أو أن صاحب المنشور هو من الأصدقاء الذين يعلقون على منشوراته، وعليه فإن الواجب العرفي _ بنظره _ أن يرد له الدَينَ _ حتى ولو على حساب أخلاقه ودينه، وبطريقة فيها الكثير من السخرية والانتقاص والغيبة والبهتان والشتيمة. وتجد أيضا أن هناك هجمة كبرى من أعداء مذهب آل البيت من النواصب، من أعداء ( آل البيت) صلوات ربي وسلامه عليهم ومن أعداء الشيعة ممن قتلوا ويقتلون منذ ( سقيفة ) العار بعد شهادة الرسول الأعظم (صل الله عليه وآله وسلم ).
وكذلك هو الحال مع _ الالحاديين _ الجدد ممن يدَّعون الديمقراطية والتمدن، ويعتبرون الدين خرافة ووسيلة للاستغلال والفساد والسرقة، وهذا الإتهام هو أكبر ذنب بإعتقادي تسبب به سفلة السياسة من مدعي التدين ممن تسلم مناصب كبرى في الدولة العراقية، وسرق البلاد والعباد. وهكذا أصبح مهاجمة رجل الدين الشيعي المعمم سلاح بيد أعداء الدين والمذهب، في غاية دنيئة يراد منها ضرب الرابط العقائدي والروحي الذي يجمع بين المرجعيات الدينية الحقة والشريفة والنزيهة التي وقفت ومعها أتباعها أمام اكبر طوفان للشر في عام 2014 ومابعده، وأقصد الارهاب الداعشي. وأعود لقضية هذا السيد المعمم، وأتمنى أن ينتبه قارئ المنشور للأمور الآتية:
1_ هل يوجد من يجزم ويقطع بإن الأموال التي أشترى بها هذا السيد المعمم مسروقة؟ هل رأيته يسرق؟ هل تم الحكم عليه بالسرقة؟. أليس هذا الإتهام بلا دليل يدخلنا في أبواب الغيبة او البهتان؟ اليس تسقيط سمعة وشخصية المؤمن، وأخذ الناس بالشبهات والظنون ومن دون حتى دليل وتثبت هو من الكبائر التي نهى عنها الشارع المقدس.
2_ أليس المبلغ الذي تم شراء الذهب به، يملك مثله آلاف من الناس من الأثرياء، وبغض النظر عن العمل الذي يمارسونه، ولكن بالتأكيد هناك عشرات الالاف أو حتى الملايين من الناس من يملك مثل هذا المبلغ، بل يملك بعضهم المليارات من الدنانير والدولارات، فلم يستكثر على هذا الرجل المعمم وجود مثل هكذا مبلغ أو أكثر معه؟. ثم أن هذه المصوغات الذهبية المعروضة وبكثرة عند محلات الصاغة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في العراق؛ يتم بيعها في كل يوم وليلة إلى المئات أو الآلاف من المشترين من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات، فهل ترى من أنكر عليهم ذلك، أو شهَّر بهم، او أتهمهم بالسرقة بلا دليل ولا بينة من على مواقع التواصل الاجتماعي؟.
3_ البعض لم يكتفي بالغيبة والبهتان والشتيمة بحق هذا الرجل المعمم، وإنما زاد عليها _ بهارات الشيطان _ لكي يرغب الناس فيه منشوره التعيس، فتجده يحاول الغمز ولو من بعيد عن صلة السيد ( السيستاني ) بهذا الرجل وينسبه اليه بدعوى أنه أحد وكلائه_ بحسب ما يدّعون _ وكأنه يريد أن يوصل رسالة مفادها أن أحوال مرجعية النجف هو هذا الحال من الامكانية المادية والمعيشية وطريقة الصرف والبذخ.
التوبة والإستدارك يجب على كل مسلم غيور ملتزم، لصيانة نفسه من الفساد وللمحافظة على المجتمع الإسلامي ووحدته ولتحكيم عقد الأخوة، أن يبتعد عن هذه الرذيلة، ويتوب إلى الله تعالى من هذا العمل البغيض، ويستدرك هذه الغيبة ليتخلص من آثارها السيئة.