18 ديسمبر، 2024 8:01 م

فاضل العزاوي مسافراً في المدن والكتب والعزلة

فاضل العزاوي مسافراً في المدن والكتب والعزلة

يختار فاضل العزاوي في كتابه الجديد «الرائي في العتمة» (دار الجمل) شكلاً بانورامياً عريضاً ومفتوحاً للكتابة مستفيداً من طبيعة هويته الأدبية المتعددة، فالعزاوي: شاعر، وروائي، ومترجم، وناقد، وصحhفي، وهو مولع باختراق حدود التجنيس بالكتابة، ومن هنا يستنفر ذخيرته الثرية هذه ليوظفها في كشكول قزحي يقدمه لنا في كتابة يبحث فيها عن حلول للمأزق الفردي ويعبر في الوقت نفسه عن قلق كتابي مستمر، بقدر ما تبحث الكتابة نفسها عن شكلها، وتهرب من تنميطاتها الأجناسية كما يهرب الكاتب من لحظته ليتجول بين المدن والأزمنة والثقافات.

فكرة الكشكول لا تخص هذا التجاور، أو التداخل أحياناً للأجناس الأدبية في الكتاب، بل كذلك في تعدد موضوعاته، إذ نقرأ السيرة متجسدة في مشاهد وشخصيات قديمة في كركوك من صومعة «القس السريالي» الأب يوسف سعيد، إلى تجربته في السجن السياسي، إضافة إلى حياته في أوروبا الشرقية قبل نهاية الحرب الباردة وانهيار الجدار بين عالمين رأسمالي واشتراكي، وهي مزيج من سيرة حياتية في العالم، وتجربة في الكتابة تتضمن المواقف من التحولات السياسية والاجتماعية لأكثر من نصف قرن، سيرة تتحرك بين صفاء العزلة الإبداعية وضجيج العالم الاجتماعي والسياسي من حوله.

عتمة الرائي

ولكن أي عتمة يصفها لنا الرائي؟ عتمة العالم من حوله؟ ام عتمته الشخصية؟ حيث الشاعر يرى في شكل مختلف ولا يحتاج أن يبرهن على رؤياه، والروائي يسرد تلك الرؤيا مازجاً الذاكرة بالفانتازيا، والناقد يحللها بصرامة، والمترجم يستعين بشذرات من خلاصات الآخرين فنقرأ ترجمات لمقاطع واستهلالات لبريخت وكافكا وشيمبورسكا وفيليب سوبو وسواهم ليرصِّع بها نصه الشخصي ويعضِّده، والصحافي يصف الواقع والتاريخ وينقل أخبار ما يراه ببلاغة متحصلة من تلك الذخيرة.

فصول الكتاب تخبرنا أن تلك العتمة هي نصف قرن من التحولات الكبرى من حوله وفي داخله، وهو يقف ازاءها مباشرة، وأحياناً يذهب إلى مناطق في التراث فيقترح إعادة قراءة المتنبي بتجريده من الأساطير الملفقة وسوء الفهم النقدي، نحو تحليل محنة الشاعر الأبدية، بين كونه رائياً أو نرجسياً، ويتوقف عند الحدود الرومانسية لنازك الملائكة التي قادتها لعزلتها الشخصية وارتدادها الغامض عن مشروع الحداثة، ويكتب عن تجربته في الرواية والشعر والنقد والتجربة والصحافة، إلى جانب تجربته في السياسة والمنفى والسجن وامتناع العودة للوطن، ففي البدء كان المنفى وهو النهاية غير السعيدة لرحلة طويلة.

وصاحب «أسفار» انحاز لفكرة الرائي والشعر الرؤيوي منذ مبتدأه، إنه طليعة السرب الستيني الأعلى تحليقاً والأقوى شكيمة في التبشير بينابيع أخرى للرؤيا، وما التعدد والتنـوع في الأشـكال الفنية في كتابه هذا سوى صورة للتعدد والتنوع العرقي والاجتماعي في مدينة كركوك التي ينحدر منها، وهو ما يقود إلى تعدد ثقافي لغوي وفولكلوري، بيد أن هذا التنوع ليس رطانة شكلية بل يمكن وصفه بنوع من الفوضى المنظمة، وخلخلة مقصودة لنمطية وحدة الجنس الأدبي داخل الكتاب.

منذ كتابه الأول «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة 1969» بدا نزوعه نحو الكتابة بتداخل الأجناس، جامعاً بين سرد الرواية واللغة الشعرية الموغلة في المجاز مع بناء نشيدي وبانوراما من شظايا لا تبدو مؤتلفة، بطلها مخترع شرير كما يصفه!: «تعمدت في المخلوقات ان أدمر البنية الشكلية للمادة التي أتعامل قبل أن أخلقها حلمياً وأن أجعلها تبدو تلقائية في الكثير من مقاطعها… هي نص تجريبي، لكن أليس كل كتابة حقيقية جديدة هي كتابة تجريبية بمعنى ما، أي الخروج على ما هو مكرَّر ومؤسس».

لكن هذا الكشكول، ليس عملاً تجريبياً خالصاً في هويته الفنية، كما كان الحال بالنسبة للمخلوقات، فمعضلة الأجناس يلخصها العزاوي في عنوان فرعي على الغلاف: «شهادة» قبل أن يستدرك في إشارته التي ذيل بها كتابه، حيث يتحدث عن «نص» من دون أي توصيف إضافي، وهو ما يعيد إثارة مشكلة الأجناس الأدبية، فالكتاب يقوم على نوع من التفكك المقصود، ويزهد بالترابط العضوي، أنه يقوم أصلاً على مقتطعات وشظايا، على رغم البنية السردية العامة وتوزيعه على فصول يحاول من خلالها جعل التنافر في المادة الكلية أقل وطأة، فهيكله العام وحدات مبعثرة، وفي كل منها مجموعة من الوحدات المتصلة، وهو يلخص ذلك بعبارته «أردت دائماً أن أضع كتاباً يكون كل شيء ولا شيء في آن رواية بلا محور أو مركز» وسواء أشار هذا التوصيف إلى وعي كتابي مسبق لشكل الكتاب، أو هو تبرير لاحق للشكل المفكك الذي استقر عليه، فإنه يعبر في نهاية المطاف عن وعي بأن المحتوى العام للكتاب أدبي، والشكل حر ومفتوح.

«نزهة في متاهة»

يبدأ القسم الأول «نزهة في متاهة» بقصيدة تتحدث عن بحث مستمر عن بداية: «كيفَ قطعتُ بلا نجمةٍ أو دليل/ كلَّ هذا الطريقِ الطويل/بادئاً قِصَّتي دائماً من جديد» لينتقل بعدها مباشرة إلى السرد عبر عنوان «كان يا ما كان» ليروي لنا قصة وصوله إلى برلين الشرقية قبل نحو من أربعة عقود، وليوحي باستهلال آخر عبر هذه الكان يا ما كان، ولعل نص «الوصول إلى الوادي الموحش» نموذج لهذه الكتابة المتداخلة.

وبينما يخصص القسم الثاني: «المهرجان السحري» لشهادات في التجربة والقراءة والنقد، يقارب في القسم الثالث «السيف والروح» مشكلة الحرية وعلاقة الأدب بالدكتاتورية من هتلر الى صدام حسين، عبر التأمل في الصورة الفوتوغرافية الأولى للزعيم النازي وهو طفل بثياب مزركشة، ويقرأ الدكتاتور العراقي روائياً.

وعلى مدار الفصول يبدو أحياناً متجهاً إلى الحافات المريعة، حيث لا جدوى من هذا كله، لا العالم ولا الكاتبة، فيما تصبح خياراته ورهاناته في أحيان أخرى أكثر إشعاعاً وشكيمة. فيصف عالم الحداثة من خلال حلم رامبو بتحويل الأصوات إلى ألوان، ليصل إلى الحلم السوريالي المتطلع إلى تحويل كل الناس إلى فنانين، ليؤكد بتهكم إنه يتحقق الآن وإن بصورة فكاهية في زمن الإنترنيت، فالجميع يريد أن يكون شاعراً!

كما نلمح في الكتاب الذي هو خلاصة تجارب وتأملات وأفكار وقناعات ومشاهدات، أصداء من نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» بخاصة لمحاولة جمع حوادث متعدِّدة في حياة واحدة، وتجاور التــــحليل والبــــلاغة، والنهايات المفتوحة وتكرارها من خلال فلسفة العود الأبدي. حيث الزمن والنص كلاهما مفتوح في هذا الكتاب، فبينما ينفتح الزمن من نصف قرن من التاريخ الشخصي، إلى قرون عدة من التاريخ الثقافي الإنساني، فإن الحدود التقليدية للأنواع الأدبية تنفتح هي الأخرى في فضاء يماثل هذا الانفتاح بين الزمنين الشخصي والإنساني.

بيد أن العمل يبقى، على رغم هذا، أقرب الى سردية سيروية نقدية، لأن السرد في شكل عام أكثر قدرة على احتواء أجناس أدبية أخرى في محتواه وشكله الفني، أما الترجمات والأشعار وبعض الأقاصيص التي يتضمنها العمل فهي كناية عن زخرفات باروكية للمتن الأساسي في النص، إذ ثمة بنية حكائية مضمرة داخل الكتاب، بل إن العزاوي يتحدث فيه دائماً عن قصة، وإذ يبدأ من «كان يا ما كان» فإنه يضع خاتمة افتراضية للكتاب بعنوان «ֿفي نهاية القصة»

بين الاستهلال والوصول المفترضين ثمة مدن عديدة يرسم لها العزاوي صوراً متعددة مستمدة من الذاكرة وبعضها موغل في القدم، وبعضها الآخر يومي. لكن ثمة مدينة يراها هناك، هي مدينته وحده، مدينة خيال تشبه مدن إيتالو كالفينو اللامرئية، مما يجعل أغلب أسفاره كناية عن أسفار في الأحلام والعزلة: «باحثاً عن مدينتي الأخرى التي رأيتها في أحلامي وهي تضيء من بعيد كلؤلؤة وسط ظلام العالم… أيتها المدينة الأخرى اين أنت؟

نقلا عن الحياة