في كل مرة تتكرر فيها مأساة إنسانية في العراق، تكون فصولها مكتوبة بمداد الإهمال والفساد. الكوت اليوم ليست استثناءً، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الكوارث التي يذهب ضحيتها المواطن البسيط، بينما تبقى منظومة الحكم بمنأى عن المساءلة.
الصدمة ليست في الحادثة فقط، بل في ما تلاها. ففي مقابل الغضب الشعبي والأسى العام، ظهرت على السطح مجددًا تلك العقلية السياسية المريضة التي لا ترى في الكارثة سوى فرصة للمتاجرة بها، أو لتسقيط الخصوم، أو لتلميع صورة هذا الطرف أو ذاك. وهكذا، بدلًا من أن تتحول الفاجعة إلى لحظة تأمل ومراجعة شجاعة للأسباب العميقة، تتحول إلى ساحة للصراخ والدعاية والاتهامات المتبادلة.
ما جرى في الكوت، من مأساة إنسانية راح ضحيتها الأبرياء، هو نتيجة طبيعية لمنظومة مهترئة، لم تبنِ دولة، ولم تحترم الإنسان، ولا تزال تتعامل مع أرواح الناس وكأنها أرقام هامشية في معادلات السلطة. لكن الأبشع من ذلك هو الاستغلال السياسي الرخيص للكارثة؛ إذ خرجت جهات ووجوه إعلامية، بعضها في السلطة وبعضها في المعارضة الشكلية، لتستثمر الدماء في معارك كلامية تافهة، تصرف النظر عن المسؤول الحقيقي، وتعيد إنتاج التضليل.
هذا النمط من التعامل مع الكوارث لم يعد صادمًا فقط، بل بات جزءًا من الأزمة ذاتها. فعندما تتحول المآسي إلى مناسبات للدعاية السياسية، ووسيلة لذر الرماد في العيون، فإننا لا نكون أمام سلطة فاشلة فحسب، بل أمام مجتمع سياسي فقد أي إحساس بالأخلاق والكرامة الإنسانية.
إنّ من يسرق خبز الفقراء اليوم، ويهمل حياة الأبرياء، ثم يستثمر دماءهم في البروباغندا، ليس مجرد فاسد… بل مجرمٌ يُعيد ارتكاب الجريمة مرارًا وبدم بارد.
العدالة لن تتحقق ما لم تخرج من دائرة الخطابات إلى ميادين الفعل. ولن يُصان حق الضحايا إن لم نسمّ الفاعلين بأسمائهم، ونعري خطاب التضليل الذي يتواطأ مع الجريمة. الصمت، في هذا السياق، ليس حيادًا… بل شراكة في استمرار المأساة.