في دروب الحلة القديمة، عند تخوم محلة الجباويين، ولد عام 1948م صوتٌ أدبيّ ما لبث أن تكسّرت حوله جدران الصمت، ليغدو منفيًّا يحمل العراق في قلبه ويستحضره في كلماته، هو القاص والروائي فائق محمد حسين الخليلي، الذي لم يكن مجرد كاتبٍ عابر في خريطة السرد العراقي، بل كان شاهدًا على الخراب، ومرآةً للمنفى، وراويًا لجيلٍ ذاق مرارة الاغتراب في الداخل والخارج معًا.
درس الفيزياء، واشتغل في التعليم، لكن الواقع السياسي المضطرب في العراق جذبه إلى أتون المواجهة باكرًا، فكان أحد أصغر السجناء السياسيين، لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره حين أُلقي به في غياهب سجن الحلة المركزي. وهناك، في زنزانةٍ ضيقة، وُلدت في داخله نواة السرد، وصدى القهر، وملامح الحكاية التي ستصير لاحقًا زادًا لمسيرته الطويلة.
في مطالع الثمانينات، كان على فائق أن يدفع ضريبة اسمه وانتمائه وانتماء أسرته، حين تعرّض مع عائلته إلى التهجير القسري بتهمة “التبعية”، وهي التهمة الجاهزة التي وُجّهت إلى عشرات الآلاف من العراقيين ممن لم ينحنوا للسلطة أو يبايعوها. فاقتلع من وطنه كما يُقتلع الغرس، وأُلقي به في منفى جديد: سوريا، التي احتضنت غربته ومنجزه، وكانت شاهدًا على بداياته الحقيقية في عالم النشر.
من الغربة تتفتّق القصص
ما بين دمشق والحلة والوجدان المشظّى، تناثرت إبداعاته في شكل قصص وروايات ومسرحيات وأبحاث، جاءت محمّلة بالأسى، مبلّلة بدمع المنفى، ومكتنزة بشخوصٍ تعيش بكرامة وسط رماد الهزيمة. كتب عن الجوع والجراد، عن الفرقد والنفق، عن الوطن والمنفى، عن الضياع تحت المطر، عن التهجير بوصفه جريمة، وعن عيونٍ رأت ما لا يُروى.
إن روايته “الأيام العشرة”، والتي وصفها النقاد بأنها “الحقيقة الأغرب من الخيال”، لم تكن مجرد سردٍ لوقائع، بل كانت شهادة أدبية عن تراجيديا وطن، وربما لهذا السبب حازت كل ذلك الاهتمام النقدي، من د. مدين الموسوي وناجي حسين وغيرهما. أما “العصفور والريح” فقد تحوّلت إلى موضوع أطروحات جامعية، بما تحمله من دلالات رمزية وتيارات سردية حداثوية تلامس الواقع ولا تنفصل عنه.
في أعماله، لا نجد بطولة فردية مفرغة، بل شخوصًا من لحم ودم، مسحوقين تحت رحى الاستبداد والمنفى، يتمسكون بأمل ضئيل يتهادى بين السطور. إن أدبه مثقل بالتجربة، منصهر في أتون المعاناة، كما عبّر عن ذلك د. علي الخليلي في دراسته: “الوطنية والإبداع في أدب فائق محمد حسين”، مشيرًا إلى أن ما كتبه ليس مجرد تمرين لغوي أو مغامرة فنية، بل موقف وجودي مقاوم.
نقدٌ يقابله تقدير، وتوثيقٌ يستدعيه التاريخ
لقد احتفى به النقاد العرب في أكثر من منبر، من بيروت حيث كتب عنه وديع العريضي في “فائق حسين ومتاهة اليأس والمحنة”، إلى الجزائر التي قدّمت عبر الصحافي د. طاهر بو علام قراءة نقدية لعمله الأهم “الأيام العشرة”. واهتم باسم عبدو بجوانب البعد السياسي في قصصه، ليدلّنا على أن فائق لم يكن يروي من باب الترف، بل من باب الانتماء، والصراع، والاحتجاج.
ولا يمكن إغفال الطابع التوثيقي في أعماله، خصوصًا في بحثه “التهجير جريمة العصر البشعة”. هنا، يتقدّم فائق بوصفه شاهدًا على جريمة كبرى لا يُراد لها أن تُنسى، ولا يُراد لضحاياها أن يتحدثوا.
عودة متأخرة إلى وطن مكسور
عاد فائق الخليلي إلى العراق في العام 2004م، حاملاً في ذاكرته مشاهد السجون والمنفى، ليجد وطنًا لا يزال في عتمته، غير أنه لم يرفع راية اليأس، بل واصل العطاء، مدرسًا وكاتبًا، حتى أقام له اتحاد أدباء وكتاب بابل أمسية احتفائية في أواخر عام 2007م، قرأ فيها الشاعر جعفر هجول سيرته الموجعة، كأنما يسترجع من خلال كلماته خريطة الألم التي غطّت جدران حياته.
كتب حتى لحظاته الأخيرة، ثم غيّبه المرض في السابع من أيلول عام 2020م. نعاه اتحاد الأدباء العراقيين وكثير من المبدعين، غير أن صوته لم ينقطع، فهو حاضر في مؤلفاته، في المذكرات التي كتبها، في المسرحيات التي عرضت جرح الوطن، وفي القصص التي لا تزال تنبض بالدهشة، وتستفزّ الضمير.
لقد كان فائق الخليلي كاتبًا لا يهادن، ولا يتصنّع. قصصه ورواياته ليست مختبرًا للأسلوب، بقدر ما هي مرآة لواقعٍ يتكسّر كل يوم. جاء من الحلة حاملاً همّ الإنسان العراقي، وعاد إليها بعد اغتراب طويل ليسكن ذاكرة محبي الأدب.
لقد كتب بدمه، ونزف بصوته، وشهد على زمنٍ لا يُشبه سوى الخراب. هو ليس مجرد اسم في سجل الكتّاب، بل شهادة على أن الحبر أحيانًا يكون أثقل من الرصاص.