( هلوسات وجودية وكالعادة افكار لاتصمت)
كثيرا ما يقف المرء حائرا امام ظاهرة تستحق التأمل في المشهد السياسي الكوردستاني، حيث يبرز ساسة يعلنون انتماءهم للقضية الكوردية من خلال زيهم التراثي وخطابهم العاطفي، لكن عند التمحيص في افعالهم وسياساتهم تظهر هوة سحيقة بين هذا المظهر وجوهر الممارسة؛ فهم لا ينتمون الى كوردستان والكورد إلا من خلال ذلك الراداء الذي يرتدونه في المناسبات، بينما تكشف عقليتهم وسلوكهم عن هوية سياسية مغايرة، هي بمثابة ظل متحرك للروح الفارسية وسياساتها التاريخية.
لا يمكن فهم اولويات العديد من ساستنا دون العودة الى الجذور التاريخية لتشكيلهم الفكري؛ فالفترة التي قضوها في احضان المشروع السياسي الايراني كمعارضين للانظمة الاستبدادية العراقية، لم تكن مجرد اقامة جغرافية، بل كانت غمرا فكريا صبغ عقليتهم بطابعه؛ لقد تبنوا نموذج الدهاقين الفارسي التاريخي، حيث تتحول الدولة من كيان يخدم المواطن الى آلة للجباية والاستنزاف؛ فيصبح الهم الاول هو ملء الخزينة من خلال فرض الضرائب والقوانين المكلفة، تماما كما كان ملوك الفرس يستغلون شعوبهم لتمويل حروبهم وبذخهم، مع اهمال تام للخدمات والحقوق الاساسية.
والظاهرة ليست مقصورة على التأثر بالنموذج الفارسي فقط، بل هي خليط مركب ومروع؛ فنتيجة للصراع الفارسي العثماني التاريخي الذي دارت رحاه على ارض كوردستان، يبدو ان ساستنا تبنوا اسوا ما في الارثين: القسوة العثمانية في التعامل مع الشعب والنظرة الدونية اليه، واعتباره رعايا لا مواطنين، والجشع الفارسي في الجباية والاستنزاف دون مقابل من خدمات حقيقية؛ هذا المزج انتج كيانا سياسيا قاسيا في تعامله، طامعا في مطالبه، مما ضاعف العبء على كاهل المواطن الكوردي الذي يدفع الثمن من دمه وعرقه وماله.
ان السياسي الكوردي في هذه الحالة هو انموذج صارخ لانفصام الهوية؛ فقد عاش وتشكل في دوائر خارجية وتشرب سياساتها وتقاليدها الادارية الفاسدة؛ والمشكلة الكبرى ليست في تشكله هناك، بل في محاولته فرض هذه النماذج الدخيلة قسرا على المجتمع الكوردي، وكأن شعبنا هو حقل تجارب لاعادة انتاج اسوأ النماذج التي عانى منها تاريخيا؛ انه يحكم شعبا بكورديته، لكنه يفكر بعقلية لا كوردستانية.
في خضم هذا التحليل الاليم، تبرز حقيقة بسيطة وغائبة: نحن بشر؛ هذه الجملة البديهية هي جوهر المطالبة؛ لسنا فئران تجارب في مختبرات سياسيين يجربون عليهم نظريات مستوردة فاشلة؛ نطالب ان تصاغ القوانين والسياسات انطلاقا من فكرة اساسية هي حماية المواطن وكرامته، لا نحتاج الى معجزة، بل الى تطبيق بسيط لابجديات الفكر الغربي في الحكم – الغرب الذي اخذتم شهاداتكم العلمية فيه، وبلاشك انكم مجنسون لديهم –، ذلك الفكر الذي يقوم على العقد الاجتماعي، حيث تكون الحكومة خادمة للشعب – لانريدكم خدم انما فقط كورد تؤمنون بكوردستان –، وتكون القوانين درعا تحمي الكورديوتضمن حقوقه، وتكون الضرائب مقابل خدمات حقيقية وحياة كريمة.
الزي الكوردي جميل وهو هوية نفتخر بها، لكنه يصبح قناعا مخجلا اذا لم يقترن بضمير كوردي وانساني حقيقي؛ ان الدراسة العميقة لشخصية الساسة الكورد الذين تشكلوا في الخارج ضرورة لفهم اخفاقاتنا الحالية، والحل يبدأ بالاعتراف بهذه الازمة، والمطالبة بتحول جذري في عقلية الحكم، من عقلية الدهاقين المستغلين الى عقلية الخادمين للشعب؛ نعم، يا سادة، فكروا قليلا، انكم تتعاملون مع بشر،ولا نريد منكم اكثر من ذلك.