23 ديسمبر، 2024 6:47 ص

فؤاد قزانجي ، العالم الذي خسرته بغداد العراقيَّة وتشرفَّتْ به برلين الألمانيَّة .. آثاري وببلوغرافي يدرِّسُ العلوم الإنسانيَّة باللغة الإنجليزيَّة

فؤاد قزانجي ، العالم الذي خسرته بغداد العراقيَّة وتشرفَّتْ به برلين الألمانيَّة .. آثاري وببلوغرافي يدرِّسُ العلوم الإنسانيَّة باللغة الإنجليزيَّة

لِي عظيمُ الفخر والشرف بأنْ أقولَ لكم أنَّ فؤاد يوسف قزانجي، هو أستاذي الذي تتلمذْتُ له أو على يديه في أحد أقسام اللغة العربيَّة في أوائل تسعينيَّات القرن الفائت، عندما كانَ يدرِّس لنا مادَّة النصوص الإنجليزيَّة، ومازلْتُ أذكره وهو يقرأ علينا قصَّة السيدة العجوز (مسزز فين)، تلك العاجزة التي كانتْ تقتعد كرسياً متحرِّكًا، وكيف انتصرَتْ على ذلك الحرامي (ميلر) الذي حاولَ سرقة مجوهراتها وأموالها من منزلها، بمعاونةٍ من صديقته التي كانَتْ تعمل خادمةٍ لها؛ وقال لنا وقتها: إنَّ هذه السيدة العجوز تفوَّقتْ على هذا اللص بعقلها لا بعضلاتها؛ كما لا يمكننِي أنْ أنسَى جمال صوته العذب وروعة إلقائه ورقَّة تعبيره، وهو يفصِّل لنا في أحداث مسرحية (هاملت) لشكسبير، والتي كانَ يدرِّس لنا نسخة مختصرة منها، فهي المسرحية الأطول لمؤلِّفها كما هو معروف عنها، وهي الأبرز مِن بين كلاسيكيَّات الأدب العالمي، ولها التأثير الأكبر في الأدب الإنجليزي الحديث كلِّه، وفيها يقول (هاملت) مناجيًا نفسه: (أكون أو لا أكون تلك هي القضيَّة)، تلك العبارة التي اشتهرَتْ أكثر من شهرة المسرحية نفسها التي قِيلَتْ فيها، أو أكثر من شهرة شخصيَّة (هاملت) نفسه القائل لها؛ فقد ذهبَتْ مثلًا للإصرار والعزيمة في كلِّ عصرٍ أو زمن أتى بعد العام 1602م، هو العام الذي خطَّ فيه (وليم شكسبير) آخر حرف من هذه الرائعة الخالدة.
لمْ أكنْ وحدي معجبًا بجمال صوته وطلاوة حسِّه يومذاك، فقد تطاول عليه يومًا أحد زملائِي مازحًا معه من باب العَشَم والمحبَّة والطيبة التي كانَ قد زرعها الأستاذ قزانجي نفسه في نفوسنا نحن طلبته ومريديه، لا من بابِ التجاوز والإساءة أو الخروج عن حدود الأدب بين المعلم والتلميذ، فقال له مشفقًا عليه بعد أنْ رآه يجهد نفسه في التدريس أكثر من اللازم أو المطلوب منه: ((أستاذي الكريم: اعتقد أنَّ صوتك فيه من الجمال ما فيه، ما رأيك لو تترك التعليم وتصير مغنِّيًا مطربًا، أليسَ هذا بأفضل لك من هذا العذاب وَدَوخِ الطلاب ومشاكلهم))، فما كانَ مِن أستاذنا الكبير إلا أنْ التفتَ إلينا بهدوءٍ ممزوج بابتسامته الخفيفة اللطيفة التي عوَّدنا عليها كلَّ آنٍ، خالعًا نظارته بيده اليسرى التي كانَ يمسكُ فيها الكتاب، لأنَّ يده اليمنى تكون مشغولة دائمًا، فهي التي تمسك بحجر الكتابة أو (التباشير – الطباشير) كما يسمُّونه في العاميَّات العربيَّة، قلتُ: التفت إلينا ناظرًا إلى زميلي المتكلم أو السائل المستظرِف المخفِّف دمه، فقال: ((في الحقيقة يا ولدي لقد عَرَضَ عليَّ من عرضَ هذا العرض قبل أكثر من عشرين عامًا، ولمْ أتردَّد حينها في الموافقة والقبول، لكنَّنا اختلفنا على الأجر والمقابل، وأنا أعِدُكَ اليوم أنْ أفكِّر في هذا الموضوع ثانية بعد ملاحظتكَ الذكيَّة هذه))، قالها باسترسال وأريحيَّة وسعة صدر وبلا انزعاج أو اغتياظ من السائل، فانفجر كلُّ مَن بقاعة الدرس بالضحك، وطال الضحكُ عليه حتَّى نال منه، فاضطرَّه أنْ يجلس على كرسيِّه في منصة الأستاذيَّة التي بالقاعة نفسها، ليضحكَ معنا أو يشاركنا ضحكنا الذي تسبب هو فيه بطيبته وإنسانيَّته ورهافة حسِّه، ثمَّ نراه لا يفوِّت هذه الفرصة ليفيدنا بقصَّة أخرى ظريفة أو حادثة أخرى طريفة حدثتْ للأديب الأيرلندي (جورج برنارد شو)، يوم جاءته فتاة جميلة ونبيلة في حفلةٍ للنبلاء كان مدعوًا لها، وهو الذي هو ليس منهم، قائلة له: ((لمَ لا نتزوَّج، فأنجِبَ لك غلامًا يَرِثُ جمالي أنا وذكاءَك أنت))، ولمْ يكن (برنارد شو) بمستوى جمالها وحسنها، لكنَّه كان ذكيًا حاضر البديهة سريعها، فأجابها: ((أخشى أنْ يرث الغلام جمالي أنا وذكاءَك أنت))، فعلى الضحك وزاد، فما كان من الأستاذ قزانجي إلا أنْ يسترسلَ في الحديث والتعريف بهذا الكاتب الفذ الذكي والإنسان الراقي الذي جعل من مكافحة الفقر هدفًا رئيسيًا لكلِّ ما يخطُّه بقلمه، لأنَّه كانَ يؤمِنُ بأنَّ الفقر هو مصدرٌ لكلِّ الآثام والشرور، كالسرقة والإدمان والانحراف، وأنَّ الفقر يعنِي الضَّعف والجهل والمرض والقمع والنفاق، ومن أمثلة محاربته للفقر بطريقته الساخرة: إنَّه دخل يومًا حفلًا خيريًا ورأى الفتيات الجميلات يتسابقنَ للرقص معه، وحتى يغيظهُنَّ توجَّه إلى فتاة سمينة وقبيحة ليرقص معها، فانتفخَتِ الأنا عندها فقالَتْ له: أرى بأنَّك يا (برنارد شو) رأيْتَ فيَّ شيئًا أهمَّ ممَّا في الأخريات، وبسببه اخترتنِي للرقص من دونهِنَّ، فردَّ عليها: أليسَتْ هذه حفلة خيرية؟، فهو هنا يحارب الفقر حتى لو كان في الجمال؛ وانتهَتْ تلك المحاضرة التي لا يمكن أنْ تُنسَى أبدًا، بضحكٍ أزيد وأعلى، دونَ أنْ يكملَ لنا فيها درسنا.
هذا هو الأستاذ فؤاد يوسف قزانجي الذي لا يعرفُ إنسانيَّته على حقيقتها إلا طلبته، أمَّا علمه ومعرفته فهما أكبر من كلماتي ودقَّة وصفها لهما وله أيضًا، فلو حدَّثتكم عنه لقلتُ أنَّه الأوَّل دائمًا في كلِّ شيءٍ، ففي عهده ازدهرَتْ المكتبة الوطنيَّة ببغداد، فهو مديرها رقم واحد، الذي جلسَ على عرشِ إدارتها بكفاءته ومجهوده من العام 1977-1981م، ليضيفَ إليها من خبرته ودربته في مجال التصنيف والببلوغرافيا، وما تركها إلا صرحًا يفتخر به كلُّ عراقي يعرف قيمة تلك الكنوز التي جُمِعَتْ بها، أو احتوتها أضلاع جدرانها، ولمْ يكنْ يدري أنَّه سيجيئها ذلك اليوم الأسود اللعين من بعد 9/نيسان/2003، أعنِي نفس اليوم الذي فيه خربَّها وأحرقها وسرقها الرِّعاع والهمج من حثالة البشر وأرذال الناس الأغبياء المتخلفينَ من الحمقى الرجعيينَ، مستغلينَ ظرف الحرب التي مرَّتْ على  البلاد، الذي سقطَتْ أثناءَه الدولة العراقيَّة وغاب فيه القانون.
كذا فالأستاذ قزانجي هو أوَّل من أسَّس قسمًا لعلم المكتبات والببلوغرافيا في الجامعات العراقيَّة كلِّها ، فلمْ يكنْ هذا الاختصاص معروفًا فيها أو مندرجًا بين أقسامها العلمية قبل أنْ يأتي به هو إليها، كانَ ذلك في الجامعة المستنصريَّة ببغداد عام 1970م، وقد رأسه إلى العام 1973م، فيتركه رئيسًا لتحرير حصيفة (بغداد أوبزرفر) الصادرة  بالانجليزية حتى العام 1975م، فكان إضافة إلى كلِّ مكان أو محفل تواجد فيه.
ورأيته في العام 1997م، يلقِي محاضراتٍ في قسم الإعلام – باللغة الإنكليزية طبعًا – وذلك يوم كانَ تابعًا لكليَّة الآداب بجامعة بغداد، قبل أنْ يصير هذا القسم وحده كليَّة مستقلة أو منفصلة عنها، كذا كان يلقِي محاضراته في علوم، أو عن علومٍ إنسانيَّة أخرى كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والاجتماع وغيرها، بنفس اللغة الإنجليزيَّة الذي هو أستاذ لأدبها أيضًا في قسم الاختصاص، أي قسم اللغة الإنجليزيَّة.
أمَّا عِلمَي: الآثار والحضارات القديمة وعلم المكتبات والببلوغرافيا، فهو يدرِّسهما لك باللغتينِ العربيَّة والإنجليزيَّة، لأنَّه حاصل في الثاني على درجة الماجستير من جامعة (إيموري) البحثيَّة الخاصة في مدينة (أطلنطا) بولاية (جورجيا) الأمريكية عام 1970م، ومجتاز في الأوَّل لفصول (كورسات) اختيارية معنونة: (تاريخ الشرق الأدنى القديم)، مِن جامعتي: (إيموري) نفسها عام 1970م، وجامعة (لندن) البريطانيَّة عام 1978م.
لذلك فهو الأستاذ الجامعي والأديب والمترجم والآثاري وخبير الحضارات القديمة وأستاذ الأدبينِ: الإنجليزي الحديث والسريانِي القديم، والمؤرِّخ الحامل لإجازةٍ في التاريخ (بكلوريوس)، حصل عليها من جامعة بغداد عام 1961م، أهلته ليكون عضوًا في اتحاد المؤرِّخِينَ العرب منذ العام 1986م.
له العديد من الكتب والمؤلَّفات توزَّعَتْ بين علم المكتبات والمعلومات الببلوغرافية، والدِّراسات التَّاريخيَّة عن الحضارات القديمة وآثارها وآدابها، فمِن مؤلَّفاته في علم المكتبات والببلوغرافيا: ((المكتبات والصناعة المكتبية، بغداد عام 1972م؛ مراجع الكتب والمكتبات في العراق بالاشتراك الأستاذ المرحوم كوركيس عوَّاد، بغداد عام 1975م؛ المكتبة الوطنيَّة وآفاق تقدِّمها، طبعته دار الشؤون الثقافيَّة ببغداد، عام 1987م؛ المكتبات في العراق منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر/ بغداد 2005م؛ السلطة الخامسة: علم المعلومات وتكنلوجيا المعلومات، طبعته دار الشؤون الثقافية العامَّة ببغداد، عام 2006م))؛ ومن مؤلفاته أو دراساته التارخيَّة: ((العراق في الوثائق البريطانية، بغداد 1979م؛ بغداد مدينة السلام [باللغة الانكليزية] طبعته دار المأمون ببغداد عام 2002م؛ أصول الثقافة السريانيَّة في بلاد مابين النهرين، طبعته دار دجلة بعمَّان الأردنيَّة 2010م؛ عشرات الدراسات التاريخية والمقالات الضافية عن الحضارات القديمة وتاريخ المدن المشرقية وآدابها نشرتها له العديد من الصحف العراقيَّة والعربيَّة والعالميَّة)).
لمْ يسلمْ الأستاذ فؤاد يوسف قزانجي من الأذى والظلم والجور والتهجير الذي تعرَّض له مثقفو العراق من قبل قوى الظلام والرجعيَّة التي لا تريد أنْ يبقى في العراق فكرٌ متنورٌ، فما كان منه إلا أنْ يختار الهجرة من بغداد العراقيَّة التي خسرته ربَّما إلى الأبد، والتي لنْ يجفَّ دمع بكائها عليه أبدًا، إلى برلين الألمانيَّة التي تشرَّفتْ به وبعلمه بعد أنْ فتحت ذراعيها له واستقبلته محتفية وفرحة به، وربَّما ستمنحه جنسيتها الألمانيَّة بعد سنواتٍ معدوداتٍ تشترطها على الإنسان الذي يقيم على أو في أراضيها، تلك الجنسيَّة التي ستخلِّصه من العراق وما به مصائب وعوراتٍ سببها عاهاتٌ من الأرذال والحثالات تسلَّطتْ على رقاب ناسه، ففعلتْ ما فعلت بهم، ممَّا تستنكره كلُّ القيم الإنسانيَّة والأعراف البشريَّة، أستحي من ذكرها والتفصيل فيها في هذه الأكتوبة التي خصَّتها لأستاذي الجليل، فليس هذا موضعها ولا هذا مكانها، لكنَّني أقول : إنَّ مِن حقِّ الرجل أنْ يعيش بمكانٍ يؤمِّنُ فيه على نفسه وعياله، لهذا لا يحقُّ لأحدٍ أنْ يعترضَ على قراره هذا أو يزايد على وطنيَّته وانتمائه لبلادٍ ظلَّ يكتب عنها مِن مهجره، ذاكرها بكلِّ خير، ممجِّدًا لها، مخفيًا لكلِّ عيوبها أو عيوب تاريخها، ومتجاهلًا لكلِّ عثرات ناسها فيه، وهو المولود عام 1935م، بمدينة الموصل بمحافظة نينوى الشماليَّة فيها، وبقدر اعتراضي على طريقته هذه في التوثيق، أو منهجه في التدوين، إلا أنَّني لا أستطيع إلا أنْ أنحيَ احترامًا له ولعلمه وأدبهِ.
لمْ يبقَ إلا أنْ أقول: أطال الرَّبُّ عمرك يا فؤاد يوسف قزانجي، أطالَ الرَّبُّ عمركَ يا أستاذي الطيِّب، كمْ اشتقتُ إلى طلَّتِكَ الحنونة وطلعتك البهيَّة، مع أنَّني لمْ أكنْ ذلك الطالب المتفوِّق أو النبيه في مادَّتك التي درَّستها لي.
………………
كاتب وناقد عراقي مقيم في دمشق
للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة إلى:
[email protected]
[email protected]
[email protected]
[email protected]
[email protected]
http://facebook.com/ramzee.alobadi