22 ديسمبر، 2024 5:44 م

غيم علي شبيب (أبو بدر) الأسود

غيم علي شبيب (أبو بدر) الأسود

شاءت الظروف والتزامات النضال، ان أحط الرحال في محطة جديدة بربوع كردستان وجبالها وسهولها ووديانها. إذ بعد وجودي في”ناوزنك” القرية الحدودية التابعة للسليمانية على الحدود العراقية الإيرانية، انتقلتُ في العام 1982 الى “بشت آشان” وهي قرية صغيرة تابعة لأربيل، وتقع على سفح جبل قنديل، وهناك تعرفت لاول مرة على “أبو بدر” لنعمل سوية في إعلام المكتب العسكري.

لم أكن اعرف اسم أبو بدر الصريح ولا المدينة العراقية التي ينحدر منها، وهو لم يكن يعرف اسمي الصريح ولا المدينة التي أنحدر منها، لكنه كان يعرف أنني من خريجي ألاتحاد السوفيتي واسمي الحركي “أبو أمل”. وكان ثالثنا الرفيق “دارا” وهذا اسمه الحركي، ونقوم بتحرير البلاغات العسكرية التي تصلنا من المكتب العسكري المركزي وصحيفة “ريبازي بيشمركة”- نهج الأنصار- باللغتين العربية والكردية. وكنا نتقاسم الرغيف والزاد القليل والخفارات والحراسات الليلية، وغرفة طينية صغيرة ذات جدران مكسوة بالنايلون الأزرق، ولدينا آلة كاتبة ورونيو.

بعد مدة، وبعد ان توطدت علاقتنا نحن الثلاثة واحرزنا تقدما في مهمتنا الإعلامية، تم تكليف “أبو بدر” بمسؤولية اخرى لينتقل الى موقع آخر، وانا أيضا تم تكليفي بمهمة اخرى وانتقلت إلى موقع آخر.. وهكذا افترقنا.

بعد سنوات طويلة، وبعد ان فكّت “السوشيال ميديا” طلاسم الحزن وألغاز فراق الأحبة، وساعدتنا في البحث عن الأصدقاء البعيدين ولمّ شمل الكثيرين من الذين فرّقتهم الحياة، وجدتُ على الماسنجر رسالة قديمة من أبي بدر كان قد أرسلها لي قبل فترة طويلة، لم اكن، لسوء الحظ، قد انتبهت اليها، قرأتها وأنا اطير فرحا: “هلو جورج أنا ابو بدر. كنا سوية في المكتب العسكري نحرر ريبازي بيشمركة في بشت آشان”.

وهكذا صارت رسالة “أبو بدر” بداية لعلاقة قديمة- جديدة بيننا، وتواصلنا بشكل جميل، وشعرت انه نتيجة لظروفه الخاصة، أحوج ما يكون إليَّ للتخفيف عن غربته ولمّ اشلائه المبعثرة.

كتب لي: “كنت في المانيا ورجعتُ قبل عشر سنوات إلى الوطن. عشتُ فترة في اربيل مع العائلة والآن في تركيا بمدينة سامسون على البحر الأسود. تعبتُ من الوطن والجماعة والعائلة ووسخ البلاد وحكامها”. ثم أضاف “أنا وحدي سأنشغل مع ذاتي في آواخر العمر”.

وفي احدى المرات ونحن نتحدث معا على الماسنجر، كتب لي: “سأذهب الى الإقامة، طلعتْ اليوم. وجهك خير وما زال خيرا”. وأردف: “الصداقة شريان الدم النظيف بين مخلصين للحرية والحياة. دمتَ صديقي ودامت ذكرياتنا الجميلة أريجا ومحبة”.

بعد فترة انقطع مرة اخرى، فبادرتُ بالسؤال عنه. فأجاب: “مازلتُ في سامسون في تركيا. حصلتُ على الإقامة لمدة سنة. سامسون مدينة جميلة وهادئة على البحر الأسود. معي أصدقاء… الكاتب جهاد مجيد ورسام بصراوي وأفراد مسجلين في ال (يو أن). الحياة ليست رتيبة. اقرأ واكتب وأذهب إلى البار (الحانة) في الظهيرة”. وزاد “الحياة مثل غصن لابد أن يرى الشمس . محبتي “.

ثم انقطع تواصله مدة غير قليلة، فكتبت له مستفسرا عن أحواله، فرد: “سأبقى.. الغيم الأسود يغطي البلاد”.

وهكذا غطاه الغيم الأسود وأنهى حياته الحافلة بالنضال والإبداع. وصلني خبر رحيله المفاجئ دون سابق إنذار، شديدا كالصاعقة. وها أنا ألملم حزني على رفيق كان معي في المحطات الصعبة، وسيبقى في ذاكرتي ما حييت.