23 ديسمبر، 2024 8:33 م

ملكة الصحراء التي تخيلت بالعراق
بقلم جيسيكا فيري “جريدة ديلي بيست”
كانت خبيرة لغوية مفوهة تجيد استخدام المسدس، ورسامة خرائط وصانعة ملوك، فضلا عن انها اصبحت مادة للنجمة العالمية نيكول كيدمان.

يسلط كتاب “امرأة في ارض العرب” ضوءا جديدا على غيرترود بيل التي كانت في الطليعة والمقدمة دوما، وبكلماتها الشخصية عن لسانها ونفسها كذلك.

ضمن قراءة عامة مدهشة الشهر الماضي لمذكرات كايت بوليك التي تحمل عنوان “العانس”، دعت براليان هوبر الى اعادة تعريف مفهوم العانس من جديد وحتى الاحتفاء بهذه المفردة ومن انطبقت عليهم. ففي اشارة الى الماضي القريب الذي يتضمن اسماء مثل جاين اوستن، وايميلي ديكينسون، والملكة اليزابيث الاولى، وفلانيري اوكونور، وهاربر لي، تجادل هوبر بأن التعريف الحقيقي للعانس لابد ان يكون “المرأة التي اختارت الاستقلالية الشخصية فوق كل شيء”. وقد نقلت هوبر عن هنري جيمس وصفه لأوليف جانسلر حيث قال “هنالك نساء غير متزوجات بالصدفة، واخريات لم يتزوجن بمحض اختيارهم، غير ان اوليف جانسلر لم تتزوج بكل ما تحمل من مضامين في كينونتها الخاصة بها. لقد كانت عانسا كما كان شيلي شاعرا يكتب الشعر الغنائي، اوانها كانت عانسا كما هو شهر آب القائض في حرارته.”

كما ان هنالك امرأة اخرى لابد من اضافتها الى هذه القائمة المدهشة، امرأة تتمثل في غيرترود بيل التي لا تقهر، تلك اللغوية والشاعرة والآثارية ورحالة الصحراء، وعاملة الحرب، فضلا عن كونها صانعة الملوك وبانية الامم. انها ملكة الصحراء التي لم تتزوج قط.

لكن من حسن هؤلاء الذين لا يعرفون غيرترود بيل، فأن هنالك ذلك الكتاب المعنون باسم “امرأة في ارض العرب”، حيث يضم كتابات ملكة الصحراء الذي نشر ضمن كلاسيكيات دار بينغوين للطباعة والنشر عام 2007، والذي يضم سيرة ملكة الصحراء وصانعة الامم. يمثل كتاب امرأة في ارض العرب مجموعة من كتابات المس بيل، كما تعرف هكذا، وبكلماتها نفسها، تلك الكلمات المذيلة بتعليقات هويل، والتي تروى عبر رسائلها الشخصية التي بعثت بها الى العائلة والاصدقاء. لكن اللافت ان هذا الكتاب لم يرتب وفق التسلسل الزمني للاحداث وانما وفقا (للحيوات) التي عاشتها بيل، سواء في ارض العرب او موطنها في اوروبا.

حينما كانت معظم الشابات في سنها يوجهن جل اهتمامهم لموضوع الخروج والتنزه وباقي الانشطة الاجتماعية في ذلك العصر، كانت المس بيل مشغولة بتعلم العربية بعد ان اجادت الفارسية بطلاقة.

ولدت غيرترود بيل عام 1868 لعائلة بريطانية حديدية. وقد توفيت والدتها بعد وقت قصير من ولادة شقيقها الاصغر عام 1871، فيما تزوج والدها للمرة الثانية بعد ذلك بـ5 سنوات. وقد كتبت المس بيل الى ابن عمها ذات مرة تقول “يتوجب علي ان اذكر ان هنالك 5 مرادفات لكلمة حائط بالعربية، فضلا عن ان هنالك 36 صيغة للجمع بهذه اللغة كذلك. مع بداية شبابها كامرأة، كانت المس بيل تجيد التحدث بالفرنسية والايطالية والالمانية والعربية والفارسية فضلا عن التركية. ولم تضيع المس بيل شيئا من شبابها حيث توجهت الى بلاد فارس حينما كانت في الـ24 حيث التقت هنري كودوغان، وهو مفوض سامي بريطاني في ايران، وحيث اعطاها ديوان شعر للشاعر الايراني الكبير حافظ. وبرغم ان الاثنين ارادوا الزواج سويا، الا ان والديها رفضا ذلك بشكل قاطع، لاسيما ان هنري كان فقيرا ومقامرا في الوقت ذاته. وفي النهاية، توفي المفوض الشاب حينما سقط في احد الانهار المنجمدة اثناء الصيد. ويذكر هويل ان بيل كتبت في رثاء هنري وعن ذكرياتها معه، فضلا عن شكوكها بأنه تعمد الانتحار ربما. كما ان بيل عمدت عام 1897 الى نشر قصائد ديوان حافظ المترجمة الى الانكليزية، فضلا عن ترجمة واعادة صياغة 43 قصيدة من الشعر العربي الصوفي الغامض العائد للقرن الرابع عشر.

بعد عطلة قصيرة قضتها في تسلق جبال الالب في رفيهينشتال، عادت بيل الى اليونان، ومن ثم توجهت الى سوريا واسيا الصغرى كرسامة حدود وخرائط ومصورة وآثارية.

لكن عشق غيرترود بيل للعرب جعل منها ممثلة لهم. لقد تمكنت بيل من التوصل الى اتفاقية مع الملك العراقي تقضي بتقاسم القطع الاثارية المكتشفة بنسبة 50-50 ما بين العراق والمنقبين الآثاريين. وضمن هذه الرحلة الجديدة لها، بدأت بيل بعملها الذي تمخض في النهاية عن تأسيس المتحف الوطني العراقي في بغداد. وقد بقي عملها بمثابة الدليل الذي اتبعه المستكشفون لعقود طويلة لدقتها وصحة الخرائط التي رسمتها والصور التي التقطتها في المنطقة.

يقول هويل “بحلول مطلع العام 1905، بات اسم بيل معروفا تماما في بريطانيا كرحالة شهيرة”. وفي كل رحلة تقوم بها، كانت بيل تسافر بأسلوب خاص حيث تحمل معها ملابس نسائية للامسيات، مع ملابس من الكتان لركوب الخيل، ومعطف من الفراء يمكن ان يطوى ليصبح بطانية. وتحت طيات تنوراتها النسائية الكثيرة، كانت بيل تخفي الاسلحة مع كاميرتين وفلم والعديد من النواظير، فضلا عن مسدسات تقدمها كهدايا لمعظم الشيوخ المهمين. كما كانت بيل تحمل سجائر مصرية ومسحوقا لطرد البعوض وعدة خشبية للطبخ، حاملات شمع فضية وامشاط شعر، الامر الذي دفع القروين المحليين الى التساؤل قائلين “هل رأيتم ملكة تسافر في الصحراء؟”.

برغم انه كان يفترض بها البقاء، بلا شك، في الشرق الاوسط، الا ان الحرب العالمية الاولى وقصة حب اعادت المس بيل الى اوروبا. لقد استدعيت بيل للعمل في مكتب المعلومات الخاص بالمفقودين والجرحى في بولون بفرنسا. وقد كان المكتب بحالة فوضى، غير ان بيل عملت على ترتيبه وتحسين نظام العمل فيه حتى تولت بنفسها رآسة القسم. وقد كان الفرق كبيرا ولافتا ما بين المخاطبات الرسمية القياسية التي ترسل من مكتب الحربية وتلك التي حملت تحسينات واجراءات بيل المطورة.

على سبيل المثال، اوردت برقية تحمل الرمز B101-82 تقول “ببالغ الاسى، نود اعلامكم بان رامي القنابل أي آر كوك لقي حتفه في عمل عسكري بتاريخ الـ26 من نيسان. وقد اعرب وزير الحربية، اللورد كيتشنر، عن تعازيه وشعوره بالالم لذلك.”

لكن الانسة غيرترود بيل كانت تكتب “ان من دواعي اسفي والمي الشديدين ان ابلغكم بوصول تقرير مكتب الحربية اشار فيه الى مصرع الجندي رقم 15296، وليام جي دي الذي وقع في مكان غير محدد بتاريخ الـ13 من تشرين الثاني عام 1914. وقد كان سبب الوفاة اثناء العمل العسكري الرسمي.”

كان شقيق بيل الاصغر واحب الناس الى قلبها، والذي قاتل في تلك الحرب، كان متأثرا جدا بعملها في مكتب الجرحى والمفقودين. وقد كتبت بيل الى احدى صديقاتها عن عملها هناك ذات مرة تقول “ان القصص التي كنت اسمعها لا تنسى ابدا. و تقول معلقة “لقد كانت صور هؤلاء الناس وقصصهم وافكارهم، وكل شيء ورد عبر كلماتهم، كان يرن كما الاقراط المعلقة في اذني. لقد كانت خسارة وشحنة من الحزن الكلية.”

اما ريتشارد دوتي وايلي، فقد الرجل الذي عشقته بيل، حيث كان ضابطا برتبة مقدم في الجيش البريطاني. وبرغم ان كرستوفر هتجنز اشار ضمن قراءة سيرة هويل الى ان العراق كان يمكن ان لا يظهر للوجود بصورته الحديثة كبلد فعلي لوان بيل تزوجت هذا الرجل، الا ان الواقع كان يشير الى ان ذلك لم يكم ممكنا حصوله بصورة رسمية. لقد كان وايلي متزوجا. وبرغم انه وبيل تبادلوا بعض الرسائل العاطفية المثيرة حينما كان الوقت يسمح بذلك، الا ان علاقتهم لم تتجسد في شيء قط. كما ان زوجة وايلي هددته بالانتحار، فيما انتهت القصة بمجملها مع نهاية حياة وايلي نفسه الذي قضى اثناء معركة غاليبولي عام 1915. وحسب هويل انه قال “لقد سمعت بيل اخبار مصرع وايلي بالصدفة حينما ذكر ذلك اثناء حفلة للعشاء. عندها، جلست بيل لوحدها وقد تجهم وجهها، ومن ثم خرجت من بين المدعوين بهدوء والم.” وقد كتبت اختها غير الشقيقة مولي عن هذا الموضوع قائلة “لقد انهى ذلك حياتها، حيث لم يبق هنالك من شيء يستحق منها الاهتمام به.”

لكن مولي كانت مخطئة في ذلك، حيث لم يكن وايلي كل حياة بيل، وانما كان لديها سبب آخر للبقاء، سبب يتمثل في شعب العراق. لقد كرست بيل حياتها لمهمة منح العراقيين حق تقرير المصير، ومنحهم حكومتهم التي يقودونها بنفسهم. وبحلول ذلك الوقت، بات البرلمان البريطاني يعتمد راي بيل بخصوص المنطقة الى درجة انها كتبت جدلية ذات بصيرة وذكاء بخصوص الصهيونية وآثارها عام 1917. كما ان اطروحتها المعنونة “عرض الادارة المدنية في ارض ما بين النهرين”، انما كان لها ان تؤسس لفكرة العراق الذي يجب ان يكون دولة في حد ذاته. كما ان المس بيل عملت من اجل جلب فيصل الاول الى العراق، حيث تكرست جهودها لاحقا بتتويجه ملكا على البلاد.

كان هنالك الكثير من المشتركات بين الاثنين، فكلاهما ارستقراطيان فقدا امهما بسن الثالثة. وقد قال الكثيرون ان الملك كان يعاملها كأخت له.

ولوان كل ذلك وضع في فلم سينمائي، فأن الحظ سيحالف القائمين عليه لغزارة احداثه واثارتها. لكن هذا الحظ قد يبرز قريبا مع بدء عرض فلم “ملكة الصحراء”، الذي تؤدي فيه النجمة نيكول كدمان دور البطولة، و هو من اخراج وورنر هيرزوغ وبطولة نجم خماسية افلام توايلايت الشهيرة، الفنان الانكليزي روبرت باتينسون الذي يؤدي فيه دور تي أي لورنس المعروف بلورنس العرب، فيما يؤدي فيه داميان لويس دور وايلي.

لكن بحلول الوقت الذي تم فيه تتويج فيصل الاول ملكا على العراق، كان صحة ملكة الصحراء قد بدأت بالتدهور بشكل خطير. وقد اضطرت بيل للعودة الى بريطانيا عام 1925 لتجد عمل والدها قد بدأ بالتدهور كذلك. واثناء وجودها هناك، عمدت بيل الى رؤية اكبر عدد ممكن من اصدقائها في الوطن، الامر الذي يعد لافتا وغريبا بحد ذاته، لتعود بعدها الى العراق برغم مرضها عام 1926. وبعد يوم من السباحة، وجدت الخادمة سيدتها ميتة وبجانبها علبة من حبوب الدواء الفارغة.

لقد كانت بيل بعمر الـ58 حينما توفيت، غير انها عاشت (حيوات) اكثر في تلك السنوات.

فيما كانت بيل تعتبر عانس غير متزوجة، الا انها كتبت ذات مرة الى عائلتها حينما كانت بعمر الـ37 تقول “لقد اصبحت شخصا في سوريا!”. وحتى ان الملك جورج الخامس كتب رسالة عزاء مطولة لعائلة بيل عند وفاتها، لكن من الواضح معرفة اين كانت غيرترود بيل تنتمي بحق. لقد دفنت ملكة الصحراء في مقبرة خارج بغداد حيث حمل مسؤولون عراقيون وبريطانيون نعشها الى مثواه الاخير. كما ان شاهدا من النحاس الاصفر علق في المتحف الوطني العراقي ببغداد للاعتراف بدور المس بيل واعمالها العظيمة في مجال الاثار. اما صديق بيل وعدوها في الوقت ذاته، لورنس العرب، فلربما كان من وصف بيل برسالة مميزة بعث بها الى والديها حيث قال “يصح انكم متألمون وغير سعداء لفقدانكم غيرترود التي لن تعود قط، الا انها هنالك كما ارادت دوما، وهي لم تكن لكم اصلا، حتى وان كانت منحتكم الكثير”.