23 ديسمبر، 2024 2:31 م

غيبوبة الوعي الجغرافي : لماذا تعسّرت ولادة الهوية الوطنية في العراق ؟!

غيبوبة الوعي الجغرافي : لماذا تعسّرت ولادة الهوية الوطنية في العراق ؟!

حين يجري تناول وتداول قضايا الوعي الاجتماعي ، نادرا”ما يتطرق الحديث / النقاش إلى دور وأهمية الشق أو الجانب الجغرافي في منظومة هذا الوعي المركب ، باعتباره يمثل ركنا”أساسيا”من أركان ليس فقط قيام الدول وصيرورة المجتمعات وسيرورة الحكومات وتحديد السيادات فحسب ، بل وكذلك لبناء الشخصيات الاجتماعية ، وتكوين الهويات الوطنية ، وتكريس الذاكرات التاريخية . والحال ليس كالإنسان العراقي من يفتقر إلى امتلاك مثل هذا الوعي أو يهتم لأمره ، والحالة الوحيدة التي تدعوه لتذكر أهمية هذا النمط من الوعي لا تتعدى احتمالين ؛ أما الأول فهو أن يكون الدافع برغماتي يتعلق بالمطالب و(الحقوق) القومية / الاثنية أو الدينية / المذهبية ، مثلما هو الوضع السياسي الحالي المتمثل بالتطلعات الفيدرالية أو لاعتبارات أخرى ذات مآرب إقليمية . وأما الاحتمال الثاني فهو أن تكون الحروب الخارجية وما تستلزمه من استنفار جميع الماديات والرمزيات ، هي ما يفرض عليهم أن يولوا مسائل السيادة الوطنية والحدود الجغرافية أهمية مضاعفة ، نظرا”لما يترتب على نتائج تلك الحروب من أوضاع شاذة وظروف استثنائية قد تهدد مصالحهم وتقوض طموحاتهم .

والحقيقة إن الإنسان لا يولد وهو يحمل مورثات مثل هذا الوعي في جبلته ، اللهم إلاّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة الإحساس الأولي الناجم عن تغيير المحيط / البيئة في لحظة الولادة ، حيث الطبيعة البيولوجية تفرض علينا مغادرة دفء المكان المغلق (الرحم) إلى صدمة المكان المفتوح (الفضاء) . أما خلاف هذا النمط من (الوعي) البدائي – إن جاز لنا تسميته وعيا”- فالأمر يبقى منوطا”بماهية المجتمع الذي يولد فيه ذلك الإنسان ؛ حيث يترعرع في كنفه ومحيطه ، ويتربى على قيمه وعاداته ، ويستبطن رموزه وثقافاته ، ويسلتهم تاريخه ومخياله ، ويحمل شيفرات شخصيته وهوياته . والمفارقة إن المجتمع لا يحكم – في الغالب الأعم – نفسه بنفسه ، ولا يتحكم بمدخلاته ومخرجاته من المثل والمبادئ على وفق ما تحدثنا به المبادئ (الديمقراطية) ، بحيث يستطيع أن يقدم لأعضائه جميعا”تربية وطنية صالحة وتنمية إنسانية سليمة ، يتمكن من خلالها اكتساب فضائل الوعي الاجتماعي ، بما فيه من وعي وطني وجغرافي وتاريخي وحضاري .. الخ ؟. إنما هو يقاد من قبل نخب معينة انتظمت في دول والتأمت في حكومات ، لا يجمع بينها قاسم مشترك سوى الرغبة في تأمين ما (يزعم) عادة أنها مصالح الوطن وحقوق المواطن ، أما بخلاف هذا (الادعاء) فهي تتنوع بتنوع المشارب السياسية ، وتختلف باختلاف الاتجاهات الإيديولوجية ، وتتباين بتباين التطلعات الإستراتيجية .

وإذا ما كانت الحكومة – أية حكومة – حريصة فعلا”على ضمان أمن وسلامة المصالح الوطنية ، وتعتبر نفسها مسؤولة حقا”وفعلا”عن تطوير المجتمع وتفجير طاقاته وتنوير ملكاته وتثوير إبداعاته ، فإنها ستكون في سباق مع الزمن لأجل ، ليس فقط أن ينعم أفراد ذلك المجتمع وجماعاته بأسباب الرخاء والعيش الرغيد ، بعيدا”عن مظاهر الفقر والجوع والأمراض والتخلف فحسب – فتلك على أية حال نتائج لسياسات معينة – وإنما ينبغي لها أن تجعله يتحلى بكل بمزايا (المواطنة) ، التي من جملتها الإحساس بالانتماء إلى وطن يمتلك تضاريس جغرافية مميّزة ، ويختزن أحداث تاريخية خاصة ، ويتمثل بأنماط ثقافية مختلفة ، ويتجلى بمعطيات حضارية متنوعة ، بحيث تجتمع كل هذه الخصائص وتتفاعل ليتمخض عنها ما نسميه أخيرا”(بالهوية) . هذا بينما نشهد العكس من ذلك تماما”في حال كانت الحكومة المعنية لا تعبر إلاّ عن مصالح حفنة من سرّاق المال العام وزعماء المافيات والعصابات والمليشيات ، الذين لا تعني لهم السياسة سوى وسيلة لتسخير الدولة ومؤسساتها لخدمة مآربهم الشخصية وأطماعهم الفئوية ، ولا يعني لهم التاريخ سوى مجموعة من النصوص والوثائق التي يمكن تزويرها وتغيير وقائعها والتلاعب بتفاصيلها ترضية لهذا الطرف أو ذاك ، ولا تعني لهم الحضارة سوى مجموعة من النصب والتماثيل واللقى التي يمكن بيعها لتجار الآثار المهربة ، ولا تعني لهم الجغرافية سوى رقعة من الأرض يمكن المساومة بشأنها والمقايضة حولها أو حتى التنازل عنها ، ولا تعني لهم الثقافة سوى مجموعة من الخرافات والأساطير التي تفسد العقول وتخرب النفوس ، بحيث يمكن نسخها أو التخلص منها والقضاء على رموزها . وأخيرا”لا تعني لهم الهوية سوى مجرد أسم مشكوك بنسبه

ومطعون في مرجعيته يمكن استبداله أو تغييره بآخر جديد ، إذا تطلبت المصلحة ذلك ، مثلما يستبدل المرء ثوبه القديم بعد أن أصابه البلى ! .

ومن الجدير بالاهتمام هو إن نستوعب حقيقية واضحة وضوح الشمس – ولكن الأبصار عنها تزيغ في الغالب – مفادها إن هوية الأوطان – أي وطن – لا تتكون من العدم ولا تتشكل في الفراغ ، إنما ينبغي – أولا”وقبل كل شيء – أن يكون لها أساس طبيعي / جغرافي ترتكز عليه وقاعدة إقليمية تتشكل فوقها – بصرف النظر عن حجمها أو موقعها أو شكلها أو ثرائها – لاسيما وان جميع مكونات الهوية التي أتينا على ذكرها ، تحمل في صلبها ملامح تلك الجغرافية وتتزيا بوشومها الايكولوجية . فالتاريخ بدون جغرافيا مجرد أساطير ، والثقافة بدون جغرافيا مجرد خرافات ، والحضارة بدون جغرافيا مجرد أوهام ، ناهيك عن إن الإنسان ذاته بدون جغرافيا لا يعدو أن يكون سوى كتلة من المكابدات الاجتماعية والاغترابات النفسية ، التي قد يكون لها بداية ولكن لن تكون لها نهاية . هنا نسارع للقول بان الجغرافيا التي عنيناها في هذا المجال ، ليست فقط تلك المعطيات الجيولوجية أو التضاريس الأرضية أو الظواهر المناخية ، باختصار ما يسمى بالجغرافية الطبيعية ، إنما قصدنا تلك الجغرافية المحملة بمضامين سوسيولوجية أنثروبولوجية وسيكولوجية ، لا بل حتى مخيالية والأسطورية .

ولعل ما تعانيه الهوية العراقية من مظاهر عسر الولادة وآلام المخاض ، ناجما”بالأساس عن حالة الغيبوبة – بلّه الغياب – التي يمر بها الوعي الجغرافي للإنسان العراقي ، ليس فقط بسبب الأوضاع الشاذة التي يتمرغ بأوحالها المجتمع وتتعفن خلالها الدولة في الوقت الحاضر ، على خلفية دراما الصراعات العنصرية والطائفية والتجاذبات الإقليمية والدولية ، تلك التي برع في أداء أدوارها سماسرة السياسة وتجار الحروب فحسب – كما قد يتوهم البعض – إنما هي حالة مرضية مزمنة وداء عضال متوطن ، أصاب الشخصية العراقية بتشوهات بنيوية دائمة ؛ وطنية ومعيارية ورمزية ونفسية وأخلاقية ، للحدّ الذي وسمها بمظاهر خصاء الإرادة وتعليب الوعي وتدجين الشخصية .

وهكذا فان على من يريد أن يعالج علة غياب (الهوية العراقية) من أفق تفكير الإنسان العراقي ، عليه أن يركز جهوده صوب الهدف المركزي المتمثل في ظاهرة غيبوبة (الوعي الجغرافي) من بنية الوعي الاجتماعي بشكل عام ومنظومة الوعي الفردي بشكل خاص . وبالتالي فان الحل لا يكمن في السياسة كما جرت المحاولات لحد الآن ، وإنما يربض في الثقافة ، من منطلق إن الممارسة السياسية التي تفتقد للموجه الثقافي ، لابد أن تتحول من أداة لبناء الإنسان الى معول لهدم كيانه ، ومن مؤسسة لتعمير المجتمع الى جهاز لتدمير بنيانه . ومما يؤكد هذه الحقيقية السوسيولوجية المؤلمة ، هو انه على الرغم من تعاطي جميع مكونات المجتمع العراقي لمورفين السياسة بجرع مضاعفة وتركيز عال ، إلاّ أن ذلك لم يحل دون أن تكون الجغرافية الوطنية محل نزاع ضار وشرس بين عناصرها – كما حدث في معارك تحرير المحافظات مؤخرا”- على وفق رؤى وتصورات طائفية وعنصرية لا يجمع بينها جامع سوى التطرف المشترك والعنف المتبادل ، بعد أن تغلبت فيها مطالب الجزء على الكل ، وتسامت فيها مصالح الخاص على العام .

ولعل مكمن الخطورة في المأساة العراقية الحالية ، خصوصا”بالنسبة لقضية الهوية الوطنية المجهولة المصير ، هي إن الأطراف المعنية بتأجيج سعار تلك المأساة نقلت محور صراعاتها من مضمار السياسة المتحرك والقابل للقسمة ، إلى إطار الجغرافيا الثابت والمحرم تقسيمه . بمعنى أنهم وضعوا مطلب تقاسم (المكان) الذي لا يوجد عرف أو قانون يبرره كعنوان لأهدافهم الاستراتيجية ، بدلا”من هدف تقاسم (السلطة) المشروع عرفا”وقانونا”. وهو الأمر المرجح له أن ينسف كل الأسس ويقوض جميع الركائز التي تقوم عليها وحدة العراق ؛ ليس فقط في حقول السياسة والاجتماع والجغرافيا والتاريخ فحسب ، بل وكذلك في مضامير الدين والثقافة والهوية والذاكرة والحضارة !! .