18 نوفمبر، 2024 1:22 ص
Search
Close this search box.

غياب عنصري الطراوة والمتعة في المسرح العراقي

غياب عنصري الطراوة والمتعة في المسرح العراقي

منذ زمن بعيد ، يشغلني امر غياب الطراوة والمتعة في المسرح العراقي ، وكثيرا ما كنت ادرس العروض المسرحية التي تقدم بشيء من التمحيص ، خاصة عندما لا اجد صدى لتلك الانتاجات المسرحية في نفسي ، واقارنها بتلك الانتاجات – وهي قليلة – التي اجد فيها المتعة والاثارة والاندهاش .
  وكأي محلل ، او عالم كيميائي ، يجعل مادته تحت المجهر ، أو يفرز خواصها ، ويدرس علاتها بدقة وعناية وصبر ، من خلال فحص دقيق ، واجراء عدد من التحليلات والاختبارات ، حاولت ان اعثر على اسباب غياب عنصري الطراوة والمتعة في مسرحنا العراقي .
اولا – النص المسرحي
  ان النص المسرحي ، المادة الخام الاولى في العملية الانتاجية الابداعية في المسرح ، اذا لم تتوفر فيه اولا الطراوة والمتعة والاندهاش ، من حيث طرح الفكرة ، ومعالجتها ، واسلوب بنائها ، وكتابة حوارها ، وتقديم شخوصها ، ثم ادخال تلك الشخوص في دائرة الصراع الذكي المطلوب ، فان اول تركة مثقلة بالمتاعب ، وخالية من الطراوة والمتعة ، قد يحصل عليها فريق العمل المسرحي الانتاجي منذ البداية ، اي منذ بداية اختيار ذلك النص .
   ان اكثر النصوص المحلية والعربية والعالمية المختارة والمقدمة في العقد الاخير من عمر مسرحنا العراقي ، كانت تفتقر الى مقومات أساسية مطلوبة في النص المسرحي الناجح المؤثر ، رغم ان الاختيار لتلك النصوص – كما اعرف – قد جاء بالدرجة الاولى للفكرة الجيدة الملتزمة التي يزخر بها النص المسرحي المختار والمقدم على مسرحنا ، وهذا أمر جيد ورائع ، ويمتاز به مسرحنا العراقي الملتزم بخصوصية نادرة تقريبا منذ بداية تكوينه في العشرينات حتى يومنا هذا .
  ولكن … كم يكون جميلا ورائعا وجيدا ان نستطيع ايصال الافكار الجيدة من خلال تسهيلات فنية وتقنية الى الجمهور ، من خلال كتابة النص اولا ، اي ان النص يحتوي على الفكرة الجيدة ، ويكتب باسلوب درامي فذ ، مؤثر وممتع مثير ايضا . غير اننا مع الاسف كنا نرصد الفكرة الجيدة الملتزمة ، بدون ان تقدم كتابة ، من خلال تكنيك جيد ، والتقنية الضعيفة والهزيلة ، تطرد المتعة والطراوة في النص المسرحي ، وهو ما يزال سطورا على الورق .
ثانيا : الاداء المسرحي
   انني اعتقد ان الاداء المسرحي لاغلب الممثلين والممثلات عندنا يفتقر في قيمته الفنية الى الامور التالية والتي تشكل بدورها سببا في غياب عنصري الطراوة والمتعة في مجمل العملية الانتاجية الابداعية في المسرح .
1. عدم توفر الاصوات المسرحية الجميلة المعبرة المقتدرة على التوصيل والتأثير بين (المتلقي) و(الممثل) و(المتلقي) و(المتفرج) . وعند انحسار مثل هذه الاصوات المسرحية المطلوبة في اي انتاج مسرحي ، يتخدش الانتاج المسرحي في توصيل الفكرة من خلال (الحوار المنطوق) الذي يفرزه صوت بشري . ونتيجة لذلك تضعف دائرة العلاقات بين الشخصيات المسرحية ، ويبهت الصراع وتضيع الازمات وتتلاشى العقد الصغيرة والكبيرة ، نظرا لان الفعل المسرحي يعتمد بالدرجة الاولى على (الكلمة المنطوقة) نثرا او شعرا . فاذا كانت الكلمة المنطوقة تخرج بولادة عسيرة وهي شبه ميتة من اجهزة النطق لدى الممثل او الممثلة ، فاننا يجب ان نتوقع بان التوصيل لتلك الولادة العسيرة ستكون صعبة وعسيرة ايضا بالنسبة الى المتلقي (الجمهور) مما يفقد العملية الفنية عنصري المتعة والطراوة دون شك .
2. (عدم توفر الالقاء الجيد عند الممثلين والممثلات في مسرحنا العراقي) . لا اريد في هذا المجال او اورد معلومات وحيثيات اكاديمية لكل ادلل بما اريد ان اطرح من رأي . ولكني اود ان اؤكد نقطة مهمة ، انه حتى وان توفر صوت جيد – كمادة خام – لدى الممثل ، فان امكانية استغلال ذلك الصوت بمهارة فنية (تكنيك) مطلوب ومهم في عملية (التصويت) الفني .. اي في عملية ايصال (الكلمة المنطوقة) من على خشبة المسرح الى الجمهور بشكل جميل وممتع ومثير .
   هذا بالاضافة الى ان يمكن الممثل لاساليب الالقاء المختلفة .. اي امتلاكه (المهارات الفنية) في الاداء لطرز مسرحية مختلفة ، تعطي للممثل القدرات التعبيرية في الاداء المتجانس مع طراز المسرحية المحلية والعربية والعالمية .. فالالقاء الكلاسيكي غير الالقاء الرومانسي : والالقاء الواقعي غير الالقاء الطبيعي او الرمزي .. الخ . ومما لا شك فيه ان (الكلمة المنطوقة) من قبل الممثل الذي يمتلك الصوت الجميل المعبر وبمهارة فنية متمكنة ، بحيث يتوفر الجرس الموسيقي في الكلمة ، وتكون مخارج الحروف واضحة وسليمة وبلورية في الحوار الدائر بين الشخوص ، مشحونا بتوهج متعادل مع الموقف والشخصية والصراع ، فان المتلقي سيستجيب (بمتعة) الى حوار المسرحية المنطوق ، وسيحس بطراوة الكلمات ، وستصل آلية الفكرة الاجمالية للمسرحية بمتعة وطراوة واندهاش . اما اذا كان العكس ، الصوت الفقير المتعب ، والاسلوب الرديء في التعامل مع الكلمة ، فان تصدعا سيحدث في جدار العملية الانتاجية المسرحية ، ويمكن ان نقول ان المتفرج سيجد المصاعب في مسايرة الممثل في حواره ، وستضيع الفكرة ، ويتيه المشاهد ، ويتساءل مع نفسه : كيف يتكلم هؤلاء ؟ .. ماذا يقولون ، وبأية لغة يتكلمون ؟
    ومن هنا  جاءت الفكرة  يوما بعد يوم ، والتي بدأت تتوضح لدينا في الوسط المسرحي عموما في قطرنا العراقي ، بأن قلائل من ممثلينا يمتلكون العافية والقدرة في الصوت والالقاء المميز . ولكن هذه القلة – رغم ندرتها – لا يمكن ان تمحو الظاهرة الشائعة عند الممثل العراقي الذي يفتقر الى الخصائص التي ذكرتها انفا .
  وطالما ان الفريق الانتاجي – مجموعة الممثلين – يشكلون حلقة اساسية في العملية الانتاجية المسرحية ، وهم يفتقرون – في الغالب – الى الصوت الجيد والالقاء المميز ، فكيف يمكن ان توصل المتعة والطراوة الى الجمهور ، وهو لا يفهم مالذي يقوله الممثل (كلمة وحسا واداءا) .
3. (عدم توفر المرونة واللياقة الجسمانية التعبيرية ) ان عدم توفر المرونة واللياقة الجسدية عند الممثل العراقي – في الغالب – بجعل من جسده خشبة صلبة لا تستطيع ان تلبى جسديا وتعبيريا ، لاية مشاعر داخلية كانت ام خارجية . ان الجسم يعبر تماما عن الشخصية والموقف مثل الصوت والالقاء واحيانا يرسم خطوطا تعبيرية للشخصية اكثر من اي تعبير يمتلكه الممثل . فاذا كان جسم الممثل (متخشبا) اي انه غير مرن ولا يستطيع التعبير الجسماني المطلوب فنيا ، فان الكلمة المنطوقة لوحدها لا تستطيع ان توصل الشخصية وافكارها واحاسيسها الى الجمهور .. وبالتالي فان اية متعة وطراوة لسوف لا تتوفر في العملية التجسدية التمثيلية في اي انتاج مسرحي .
   ان اشارة بليغة من اصبع ممثل ، وان اي تعبير جسماني له – مدروس فنيا – في سكون تام ، او حركة او في اصطراع ، تعطي احيانا مدلولات فنية وفلسفية ، فكرية ، تعبيرية ، جمالية كبيرة ، في مجمل العملية التجسدية للشخصية الدرامية .
           وبقينا ان الجسم المعبر المرن المتوازن يستطيع ان يوصل احاسيس وجوهر  الشخصية وابعادها بطراوة وبمتعة كبيرتين .
4. (عدم توفر “التجديد” في طرح الشخصية المسرحية ) يمكنني ان اوجز هذه الفترة بما يلي : ان النمطية في طرح الشخصية (شخصية الممثل) على خشبة المسرح العراقي . فلو جردت الممثلين من ملابسهم التاريخية او الاجنبية . وشعورهم المستعارة ومكياجهم (الخارجي) لوجدتهم هم انفسهم على خشبة المسرح وفي كل انتاج ، انهم يقدمون انفسهم بدلا من ان يقدموا شخصيات درامية مختلفة . كثيرون هم الذين يقدمون الشخصيات المسرحية بشخصياتهم المعروفة التقليدية (النمطية) صوتا والقاءا ، وحركة ، وايقاعا في كل شخصية محلية ، ام عربية ، ام اجنبية … وقلائل من الممثلين يحاولون تجسيد شخصيات درامية تختلف عن شخصياتهم الحياتية الخاصة ، وبذلك يوفرون المتعة والاندهاش في عروضهم المسرحية ، اما الغالبية من الممثلين عندنا ، فانهم يكررون انفسهم في (نمطية) ثابتة لا يتزحزحون عنها قيد انملة .
ثالثا : فقر العملية الاخراجية
   ان فقر العملية الاخراجية ، لدى المخرج المسرحي العراقي – في الغالب – وضعف تجسيده للنص المسرحي شكلا ومضمونا ، يؤدي الى غياب المتعة (الفكرية والحسية والجمالية) والطراوة في الانتاجات المسرحية ، ما عدا بعض الانتاجات المسرحية العراقية التي وقفت بشموخ في مسرحنا العراقي ، وهي قليلة دون شك .
    ويمكنني ان الخـص اسباب غياب عنصري المتعة والطراوة في تلك الانتاجات بالنقاط التالية :
أ‌- المباشرة في طرح الافكار في العرض المسرحي .
ب‌- افتقار المخرج المسرحي الى الخيال المتوقد المطلوب .
جـ – افتقار التوازن الفني في عناصر الانتاج من الناحية الفنية وانسجامها فيما بينها . المفروض ان تكون عناصر الانتاج المسرحي ، الاضاءة المسرحية ، والمنظر المسرحي ، والملابس ، والالوان ، والموسيقى .. الخ ، كلها منسجمة وفي اطار طراز فني متجانس واحد ، وان اي خلل في ذلك ، او اجتهاد في التعبير غير مبرر فنيا يدفع بالانتاج الى فخ التجريبية غير العلمية ، ويفقد الانتاج المتعة والطراوة .. والمخرج الواعي هو الذي يستطيع ان يستعمل ابسط الاشياء في قدرة تعبيرية ، وفي انسجام هارموني مطلوب بحيث يحقق هدف المسرحية الرئيسي .
د – (افتقار المخرج المسرحي ، كونه المخرج المعلم) .
  باعتقادي ان جيلا جديدا من المخرجين لا يبذلون طاقة معينة في تدريب الممثلين اثناء التمارين على تجسيد الشخصية اسلوبا وطرازا ولغة ، وصوتا والقاءا ، وحركة وايقاعا .. وغيرها من الامور التي لابد ان يكون فيها المخرج المسرحي (معلما) لزملائه من العاملين معه في الانتاج ، ان عددا من المخرجين عندنا لا يبذلون اية طاقة في تدريب الممثلين ، ان مثل هؤلاء يريدون ممثلين جاهزين . ولما يكون كشف قائمة الممثلين خاليا من ممثلين جاهزين في اغلب ادواتهم التعبيرية . سيكون اداء الممثلين رديئا . والاداء الرديء لا يوفر المتعة والطراوة في اي انتاج ، في حين ان المخرج المعلم يستطيع ان يساعد الممثلين في تطوير طاقاتهم وقابلياتهم الفنية والابداعية ، وكم من ممثل لامع خرج من بين يدي مخرج جيد معلم .. في حين ان نفس الممثل قد كبا في انتاجات اخرى ومن قبل مخرجين اخرين لا يبذلون طاقة وجهدا لكي يحسنوا معاملة الممثل واستغلال احسن ما عنده من حس وجمالية وقدرات .. اننا نحتاج الى مخرج مسرحي (معلم) في سقف زمني طويل قادم ، حتى يتوفر لدينا كادر كبير من الممثلين والممثلات الذين يمتلكون القدرات التعبيرية في كل نواحي الاداء المسرحي .

أحدث المقالات