شهدت حرب الخليج الثانية 1991 التي قادتها الولايات المتحدة مع تحالفٍ ضم أكثر من ثلاثين بلداً لإخراج الجيش العراقي من دولة الكويت أول حالة تعتيم وتقنين للمعلومة إزاء الرأي العام،حيث فرضت رئاسة هيئة الأركان المشتركة لقوات الحلفاء ضوابط صارمة أمام رجال الصحافة والإعلام وحصرت البيانات الإعلامية بها عبر بوابة واحدة لتلقي الإحصاءات والنتائج عما تؤول اليه ميادين الصراع في تلك الحرب.
وفي المعارك الدائرة الآن في محافظة الأنبار وهي حرب لارابح فيها بحسب اعتقادي مادامت تجري بين أبناء الوطن الواحد، مهما حاولت بعض الجهات تصويرها على إنها حرب بين الإرهاب المتمثل بالقاعدة وداعش من جهة وبين الجيش العراقي ومنتسبي أجهزتنا الأمنية الوطنية من جهة أخرى..وهذه الحرب العبثية كان من الممكن تجنبها منذ أكثر من عام ومع أولى بوادر الاعتصامات السلمية التي لجأ اليها أبناء الانبار ومحافظات أخرى قبل ان تتوسع وتتطور الى مالا يحمد عقباها..بعد وصفها بالفقاعات وغيرها من الأوصاف التي ضاعفت من حجم المشكلة وضخّمتها بلا دواعٍ منطقية..والدليل على صحة كلامي ان المبادرة السياسية السلمية أو (الحل السياسي)الذي أعلنه رئيس الحكومة مؤخراً، جاء تأسيساً على نقاط وبنود أعلنتها الحكومة المحلية في المحافظة المعنية (الانبار)يستجيب لمعظم المطالب التي نادى بها المعتصمون..فماهي الحكمة من تجييش الجيوش وهدر الدماء والأموال وصب الزيت على نار الفتنة الطائفية التي بلغت أوجها الآن؟..وهذا السيناريو صار يتكرر عدة مرات ونتيجته مزيداً من الخراب والدم وإزهاق الارواح وتمزيق اللحمة في جسد الوطن الواحد، في الوقت الذي نسعى فيه لترميم صفوفنا ورتق جراحنا بعد موجة عنف دامية مستمرة منذ عشرة أعوام متتالية.
وبعيداً عن ذلك أو قريباً منه تثير مسألة التعتيم الإعلامي على وقائع الحرب الجارية في الانبار قلقاً متنامياً لدى أوساط الشعب حيث تجهل فئات ساحقة منه مجريات الأحداث وكيف تسير الأمور على الأرض ومدى الخسائر في كلا الجانبين…إذ ينعدم وجود المراسل الحربي في مواقع القتال،كما ان وزارة الدفاع لاتزود وسائل الإعلام ببيانات إحصائية عن المعارك كما درجت عليها الحروب او المواجهات.
يرافق ذلك إغلاقاً تاماً لوسائل الاتصالات الهاتفية السلكية والنقالة والانترنت وغيرها،ولعل الأغرب فعلا ان يجهل حتى أعضاء لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، ما يجري في الانبار من معارك وإشتباكات عنيفة، ولايبدو ان المعارك الجارية هناك تسير نحو حسمٍ ناجز وواضح برغم مرور ستة أسابيع على إندلاعها.
وقد يشير بعض المعترضين الى الإعلام الحكومي وبيانات الجماعات المسلحة من تنظيم القاعدة و”داعش” وغيرها..برغم انه لايمكن الركون الى تلك البيانات من الناحية المبدئية لكون هؤلاء هم أطراف فعليين في النزاع الجاري في المنطقة…ما يعمّق ويضخّم السؤال الذي جعلناه عنواناً لكلامنا هذا عن سبب غياب الصوت الإعلامي المحايد في هذه المعركة؟
في الأسابيع الأولى تسنى لي إستقاء معلومات عن مراسل وكالة (فرانس برس)الذي يبدو انه كان متواجداً في مدينة الفلوجة،لكن سرعان ما أختفت رسائله بعد ان استعر أوار المعارك والقصف العنيف فيها..وكذلك بعض تقارير القنوات الفضائية العربية الاخبارية،قبل ان يطالها الضباب وعدم الوضوح.
ولعله من الثابت ان القوات الأمنية لا تزود اية جهة بإحصاءات عن عدد الضحايا في صفوف القوات الأمنية لأن ذلك قد يؤثر على معنويات منتسبي القوات الأمنية،وقد يبدو ذلك مفهوماً لكن ما لانفهمه هو عدم قيامها بتزويدنا بالخسائر المتحققة في الطرف المقابل أو الأضرار المادية والممتلكات..الخ.!
ولاتقتصر سلبية التعتيم الذي يمارس على الحقل الإعلامي وحده،فهو يقوّض الى حدٍ كبير جهود وأداء الدولة من برلمان وحكومة وشعب في تعاطيها مع هذه المعارك وقد يفشل أي مبادرة لحلحلة الأزمة ونزع فتيل إشتعالها في الوقت المناسب قبل إنفجارها وتحولها الى سوريا أخرى لاسمح الله.