لم يعد الجلوس في المجالس العائلية كما كان؛ دفء الأحاديث يتناقص، وملامح التفاعل الإنساني تتلاشى أمام شاشات صغيرة مضيئة. الكل حاضر بجسده، لكنّ العيون معلّقة بهاتف لا ينتهي من إشعاراته.
هذه الظاهرة باتت مألوفة إلى درجة أنّنا لم نعد نستغرب أن يجلس عشرة أشخاص حول مائدة واحدة، وكلٌّ في عالمه الخاص. ترى الابن يلتقط صور طعامه لينشرها، بينما الأب يتفقّد الأخبار، والأم تتابع مقطعاً طريفاً، فتتحوّل المائدة إلى عزلة جماعية صامتة. لم يعد الهاتف وسيلة تواصل، بل تحوّل إلى جدار يفصل بيننا وبين أقرب الناس إلينا.
أخطر ما في الأمر أنّ الأجيال الجديدة تعتقد أنّ هذا هو “الوضع الطبيعي”، وأنّ الصمت بين الأهل يعوّضه ضجيج المحادثات الافتراضية. صار من المعتاد أن يزور الأقارب بعضهم، فيجلس الجميع في غرفة واحدة، لكن بدلاً من تبادل الأحاديث والذكريات، ينشغل كلّ فرد بشاشة صغيرة، وكأنّ الزيارة مجرّد تجمّع أجساد. وهنا يبدأ الخلل في المعايير: هل الأسرة مكان للتشارك الحيّ، أم مجرّد تجمّع أجساد متصلة بالإنترنت؟
المشكلة ليست في التكنولوجيا بحدّ ذاتها، بل في قدرتنا على ضبط إيقاعها داخل حياتنا. المطلوب ليس العودة إلى الوراء، بل إيجاد توازن يعيد للقاءات العائلية معناها الأوّل: دفء الكلام، وصدق الإصغاء، وبهجة اللحظة. فاللحظة التي تضيع بين إشعار وصورة عابرة لا يمكن استعادتها، كما لا يمكن للهاتف أن يمنحنا حرارة عين تلتقي بعين، أو كلمة تخرج من القلب مباشرة.