18 ديسمبر، 2024 7:46 م

  غوغول ممنون يا تحسين  

  غوغول ممنون يا تحسين  

 اريد ان اسجّل – قبل كل شئ – شكري وامتناني وتقديري لدار المدى الرائدة في بغداد , لأنها قامت باصدار آخر كتاب في سلسلة مؤلفات نيقولاي غوغول و الموسوم – (مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) بترجمة المترجم العراقي الكبير د. تحسين رزاق عزيز عن الروسية , وارتباطا بهذا الاصدار المهم جدا – من وجهة نظري- اكتب هذه السطور عن الكتاب المذكور واهميته الاستثنائية الكبرى بالنسبة لابداع غوغول اولا , وبالنسبة لتاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر بشكل عام , ثانيا .

 اصدار هذا الكتاب في بغداد بالعربية يعني , ان مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة ستبدأ لدى القراء العرب ( ونؤكد على القراء العرب بشكل عام وليس العراقيين فقط ) باستيعاب و توضيح واحدة من القضايا (العالقة!) منذ اكثر من قرن ونصف في تاريخ الادب الروسي و مسيرته , عالقة في أذهان البعض من القراء العرب وافكارهم التبسيطية والساذجة حول (تقدميّة !) غوغول في بداية مسيرته الابداعية , ثم حول ( رجعيته!) في نهاية تلك المسيرة . توضيح هذه القضية الفكرية الكبيرة بشكل موضوعي وصحيح , استنادا للوقائع والوثائق , وليس لاي شئ آخر, وهذه خطوة تعني تغييرا نوعيا في النظرة العامة الى الادب الروسي وموقع ومكانة غوغول واهميته الكبرى في هذا الادب خصوصا . والمرحلة التي نتحدث عنها هنا يمكن ان نطلق عليها مجازا تسمية – مرحلة اطلاق الاحكام الصارمة والحاسمة والنهائية دون الاطلاع بتاتا على اوليّات الامور , وانما نتيجة لما قاله فلان او رأيّ الجهة الفلانية حول الموضوع المحدد ليس الا , وكم عانينا من ذلك المفهوم التبسيطي الساذج و(الخطير  جدا بالطبع!) في كل مجالات الحياة ( نعم , في مجالات الحياة كافة) , عندما كان الجميع مضطريّن ان يستمعوا صامتين الى تلك الاحكام النهائية ويوافقوا عليها (بالاجماع!!!) دون ان يمتلكوا الحق بمعارضتها , او مناقشتها او حتى الطلب بالاطلاع عليها ولو بشكل بسيط !!! وقضية الكاتب باسترناك وروايته الشهيرة (دكتور زيفاغو) ليست ببعيدة , واظن , انه لا يمكن ان ننسى قصيدة الشاعر العراقي  المشهور فلان الفلاني , الذي قال فيها (…فليخلقوا ألف زيفاغو …) دون ان يقرأ او يطلع على تلك الرواية اصلا !!!

أصدر غوغول هذا الكتاب ( وهو آخر كتبه) عام 1847 , اي قبل اكثر من قرن ونصف , وقد أثار الكتاب آنذاك ردود فعل كبيرة ومتباينة لدى القراء في روسيا , اذ انه لم يكن متوقعا بتاتا من مؤلف (امسيات عند قرية ديكانكا) و(الانف) و(المعطف) و (المفتش) و (الارواح الميتة) …الخ تلك الروائع الادبية , لم يكن متوقعا ان يصدر غوغول مثل هذا الكتاب , الذي يعكس افكاره في شؤون فكرية عديدة , ولهذا جاءت الآراء متنوعة جدا حول الكتاب , اذ قال البعض انه قمّة جديدة في ابداع غوغول الواقعي والغرائبي في آن , وانتقد البعض الآخر هذا الكتاب , وأشهر هؤلاء طبعا كان بيلينسكي , الذي كتب رسالته الشهيرة الصارمة والحادة ضد الكتاب , اذ ان  كتاب غوغول من وجهة نظر هذا الناقد , الذي كان يؤكّد على الجانب الاجتماعي للادب والفن قبل كل شئ وبعد كل شئ , ونتيجة لهذه الرسالة تبلورت المواقف تجاه الكتاب في الاوساط السوفيتية لاحقا , وانعكست طبعا على موقف هؤلاء القراء العرب ايضا , والحديث التفصيلي عن كل ذلك , حديث ذو شجون كما يقولون .         

وعلى الرغم من ان معظم مؤلفات غوغول الاساسية قد تم ترجمتها الى العربية عن الروسية او عن لغات اخرى وسيطة, الا ان كتاب ( مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) لم يترجم الى العربية طوال هذه الفترة الطويلة من السنوات , وليس ذلك من باب الصدفة ابدا , اذ ان ترجمة هذا الكتاب كان يعني (خرق !) الحظر المفروض على هذا الكتاب المهم في تاريخ ابداع غوغول , هذا الحظر الذي لمسناه بشكل واضح حتى اثناء سنوات دراستنا في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن الماضي .

الآن , سيطّلع القارئ العربي على هذا الكتاب بترجمته الدقيقة والامينة , التي يتميّز بها المترجم الكبير د. تحسين رزاق عزيز , وسيجد فيه , انه كتاب فكري عميق وطريف , ويحمل كل سمات غوغول المفكّر وتأملاته حول مواضيع متنوعة جدا  .  

  ختاما اريد ان احيي المترجم الشجاع د. تحسين رزاق عزيز على عمله الترجمي الرائد في مسيرة الادب الروسي بالعالم العربي , اذ انه هو الذي اختار هذا الكتاب وقرر ترجمته , وبذلك العمل , فقد أضاف الى منجزاته الترجمية انجازا نوعيا جديدا ورائعا, واريد ان اقول له , ان غوغول سيكون ممتنا له , لانه ترجم اخيرا هذا الكتاب ( شبه المنبوذ !) للقراء العرب رغم انهم لم يطلعوا عليه , واريد ان اقول له , ان امتنان غوغول يكمن بالذات , في كونه  يستطيع الان ان يعلن لهؤلاء الذين كانوا يثرثرون عن (رجعيته وتقدميته!) وهو مبتسما – اطلعوا ايها السادة على الكتاب قبل ان تصدروا احكامكم بشأنه , ويستطيع غوغول الان ايضا ان يقول لهم ببساطة – كش ملك !