عندما انتهى الأديب الروسي الكبير غوغول من قراءة مخطوطته رواية الأرواح الميتة على الكاتب بوشكين، حتى أصابه الحزن فعلق قائلا : ( يا لها من بلاد حزينة روسيا هذه ) وأنت ياغوغول لم تخترع شيئا” بل رويت الحقيقة البسيطة فقط (1)
فرواية الأرواح الميتة ،صورت عذابات الفلاحين وشقائهم في ظل القوانين الصارمة لسلطة إقطاع الأرض ،ومتاجرتهم حتى بالأرواح الميتة ،فلا احد يفلت منهم حتى النفوس الميتة المشمولة بالإحصاء ،فان لها ثمناً ولو بخساً يباع إلى بطل الرواية ( تشيتشكوف) ،الذي يساعد الإقطاعيون للتخلص من الضرائب، عندما يشتري تلك الأسماء الميتة، كي يمنحه المصرف قرضا، بتلك النفوس التي لا وجود لها على الأرض ،تلك الرواية كانت تسخر وبأعلى درجات المرارة من واقع بلاده.
وغوغول صاحب قصة (المعطف) ، التي قال عنها أب الرواية الروسية دستوفسكي ، لقد خرجنا جميعا من معطف غوغول ..
. ولد عام 1809في إحدى قرى أوكرانيا تسمى (سوروتشنتر) ،من أب يهوى فن التمثيل ، ويكتب المسرحيات لبعض فرق الهواة، فورث عن أبيه ذلك المرح والفكاهة والعشق للتمثيل ،ففي بداية حياته الدراسية، اشترك في حفلات المدرسة، وظهرت ميوله للإضحاك والسخرية ،فوصفه احد معاصريه ،بأنه يتمتع بروح الدعابة ،فهو ضئيل الجسم وساقاه قصيرتان ومنظره يثير الضحك.
بدأت حياته الأدبية ، بعد أن تعثر في العمل بمهنة المحاماة، أراد نشر مجموعة من قصائده ،كان قد كتبها أيام الدراسة ،فنشرها على نفقته الخاصة بعد أن أجمعت دور النشر على رفض طباعتها والتي سرعان ما هاجمها النقاد ، فاستشاط غيضا ،مما حدا به إن يمر على جميع المكتبات ليجمع نسخ ديوانه ويقوم بحرقها.
ولأنه ذا أصول قوقازية ، فيه الكثير من العناد،لم يصب بالإحباط أو ألاستسلام فقد قاده اشتغاله في إحدى المؤسسات الحكومية على التقاط معاناة الناس ،وصور بدقة الفساد الإداري والاجتماعي، وضمنها بشكل ساخر في مسرحيته الشهيرة ( المفتش العام )، تلك المسرحية التي حضر عرضها القيصر( نيقولا الأول )، الذي قال أن الجميع ناله النقد حتى أنا، وأمر بمكافئة الفرقة ،على إن لايحاطوا علما بها، كي لايخفف نقدهم للحكومة !
كذلك نشر عام 1832، كتاب ( امسيا ت من مزرعة دنكانكا ) وصف فيها ريف أوكرانيا وحياة البساطة فيه والفرح الذي يغلفه وأيضا مجموعة قصصية ، اسماها ( هير جورد )
سيد السخرية المرة وصاحب الروح المرحة والبسيطة ، انتابته كآبة شديدة ، برغم نجاحه الذي حققه من خلال رواية ( الأرواح الميتة ومسرحيه المفتش العام ) ، وتأثيرهما الخلاق في نفوس الشعب الروسي ،وما مثلته من رفض للواقع ودورهما في تعريته ،ونقده بشكل ساخر.
أراد أن يجد في السفر خارج روسيا مخرجا لازمته النفسية فسافر إلى فرنسا وايطاليا ووصل إلى بيت المقدس بحثا عن الاستقرار والطمأنينة ، التي تحتاجها نفسه المرهقة ،والعاجزة عن تكملة الجزء الثاني من رواية الأرواح الميتة والتي أمضى إحدى عشر عاما دون أن ينجزها لكن ذلك لم يحقق له ما يريد ،وصار يتبنى اتجاها إصلاحيا توجه بكتاب وضع فيه أفكاره الجديدة اسماه (مقطوعات مختارة من رسائل لأصدقائي ) ، والذي هاجمه النقاد ،لأفكاره التي اعتبروها رجعيه آنذاك ،وقالوا عنه “انه انقلاب خطير في طروحات صاحب القلم الساخر ،والمنتقد دوما لأوضاع المجتمع الروسي وكتب الناقد الثوري بيلنسكي خطابا ينتقده فيه بشدة على كتابه هذا و الذي جاء أيضا مخيبا لآمال قرائه ومحبيه !! “
فغوغول الكاتب الكبير محطم أسوار السرد التقليدية ، يقف أخيرا عاجزا إمام إرهاب الورقة البيضاء ،ليتوقف نهائيا عن الكتابة ، ففي لحظه يأس وغضب جمع مؤلفاته ومخطوطات روايته الأرواح الميتة في حقيبة ، وظل يدور من بيت لبيت ، فتبرع بكل أمواله للفقراء الذي كتب عن معاناتهم وأحبهم بصدق لكن حتى هذا العمل الإنساني الكبير ، لم يدخل الطمأنينة إلى قلبه ، فطارده شبح الموت والخوف من العذاب في الآخرة مقتربا من وصف بطل قصته (مذكرات مجنون ).
هذه الأزمة النفسية الحادة لم تهدا ،فيقرر في 11 فبراير 1852ان يحرق مخطوطاته ،ومنها الجزء الثاني من رواية الأرواح الميتة واعتزل الدنيا و ظل عشرة أيام يرهقه الصيام والأرق لتنتقل روحه إلى بارئها يوم 21-2- 1852 ،وكانت أخر كلماته (سلم أعطوني سلم ) وهي صيحة قديس روسي ،يعتقد أن روحه ستصعد إلى بارئها بواسطته سلم .
ومن سخريات القدر فقد منعت السلطات الصحف الروسية أن تنعاه أو تكتب رثاء عنه ،ومنعت كاتبا كبيرا مثل تورجنيف أن يرثيه، وطلب غوغول إن يكتب على قبره (سأظل اضحك ضحكتي المر يره على نفسي )
غوغول بقي حيا في ذاكرة الناس والعالم مازال يحتفي به مبدعا وأنسانا كبيرا
(1) هكذا كتبوا للكاتب فؤاد دواره