كان لي صديق شديد الولع بمطالعة الروايات والقصص, ما بين الادب العالمي والعربي, وكنت الحظ عليه عدم اهتمام بالنتاج العراقي! فسألته عن سبب هذا البعد؟ فيجيبني: “العراقي نتاجه غير مكتمل”, لكن ذات يوم تفاجئت عندما وجدته يقرأ رواية لكاتب العراقي, كانت (صخب ونساء وكاتب مغمور) للروائي علي بدر, فحاولت ان اعرف دوافع هذا التحول, فاختصر ما كان يمكن ان يقال: “ارجو ان تقرأها لتفهم دوافعي”, كان كلامه دافعا لشراء نسخة من الرواية, والابحار مع علي بدر في تنقلات زمنية عجيبة.
تعتبر هذه الرواية هي الخامسة للكاتب علي بدر, حيث اصدر في عام 2001 رواية بابا سارتر والتي عالجت الوعي الثقافي الزائف وأثر التيار الوجودي على المثقفين العراقيين في الستينات, ونالت جائزة الدولة للآداب في بغداد لعام 2001 وجائزة أبي القاسم الشابي وجائزة الابداع الروائي في نفس العام, ثم اصدر رواية شتاء العائلة عام 2002 والتي تصدت الى تهدم ونهاية الطبقة الارستقراطية البغدادية في الخمسينات وحازت على جائزة الابداع الروائي في الامارات العربية عام 2002, ثم صدرت له رواية تل المطران عام 2003 في بيروت, وتلاها رواية الوليمة العارية عام 2004 في اللمانيا, والتي تعالج موضوع انشقاق المثقفين بين العلمانية والدولة الدينية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في بغداد العثمانية قبل احتلالها من الانكليز عام 1917.
وفي عام 2005 جاء الوليد الخامس لعلي بدر (صخب ونساء وكاتب مغمور) وهي رواية ساخرة عن حياة اخر جيل من المثقفين العراقيين في التسعينات, والتي هي مدار مقالنا.
لقد كان ابحارا جميلا ضمن عوالم علي بدر, وتم اكتشاف هذه الجوانب المهمة, التي دونتها في مقالي:
· حكاية كل يوم “الحلم وقسوة الحياة”
تدور احداث الرواية بضمير المتكلم والراوي هو (الكاتب المغمور), الذي يعيش في استوديو صغير ورثه عن جده, يقع في شارع الراهبات في الكرادة, هذا الاستوديو مكان الانطلاق لعلي بدر في سرد احداث روايته, شاب حالم مع عفونة الواقع وبؤس الحياة, الحلم بالمال والنساء والشهرة وان يكون نجما صحفيا وكاتبا عظيما, تلك الاحلام لا تفارق “الكاتب المغمور”, وهو يسعى اليها, لكن كان زمنا صعبا الطيبة تعتبر فيه ضعفا, حيث تأكلت قيم المجتمع, وتحول الى مجتمع غابة تحكمه قوانين مخيفة.
كان جنديا قد ذاق تلك المرحلة التي كانت تضعها السلطة لسحق ما بقي من رجولة الرجال عبر الاذلال المستمر, كي يتخرج للحياة كائنا ضعيفا منزوع الارادة, فبعد خروجه سالما جسديا من محنة الحرب وجد نفسه داخلا في محنة اخرى وهي الحصار الاقتصادي, في ذلك الاستوديو الحقير والمتعفن مع كل احلامه, كان يعاني من الفقر والحرمان بشكل دائم, الجوع لا يتركه, لذلك انبثق حلم الهجرة الذي كان يراه مخرجا لكل ما هو فيه, (اريد ان اهاجر بـأي ثمن, اريد أن اغادر الى الابد) – ص 14 –, ويمكن ان نحلل هذا باعتباره افكار علي بدر الخاصة التي كان يشعر بها في تلك الفترة, فجاءت على لسان بطل الرواية “الكاتب المغمور”.
ويرسم لنا الكاتب جار الكاتب المغمور عباس وتمارى اولاد عاهرة في زمن الملكية “سعاد التركمانية” التي كانت ذات صيت في بغداد, وكانت مترفة الحال لأنها عشيقة ضابط كبير, لكن الحال تغير معها مع ظهور عبد الكريم قاسم على الواقع السياسي, فتعسرت حالها وتزوجت سائق الضابط في مدينة الثورة, ثم الطلاق كحل اخير لحياة زوجية بائسة, عباس ابن سعاد صاحب محل لتصليح الساعات, وتمارى تتنقل بين العشاق, وهنالك صداقة قديمة بين “الكاتب المغمور” وعباس, حيث كان عباس يعود دوما للكاتب المغمور كي يترجم له رسائل حبيبته المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية.
تلك الحبيبة التي تعرف عليها عباس عندما كانت متواجدة في بغداد, ضمن وفد رياضي مغربي واتفق معها على الزواج.
فكان يرى “الكاتب المغمور” ان زواج عباس من المغربية يمكن ان يفتح له باب الهجرة والخلاص من ازمة البلد الخانقة, الحصار الخانق للامة حيث يقول : (هل أنا مسؤول عن غزو الكويت؟ هل انا من يستحق العفونة) – ص 129 –, لذلك كان مستعد لتقديم كل اشكال الدعم لصديقه, كي ينجح في تحقيق حلمه, فالأحلام اصبحت مشتركة بين عباس والكاتب المغمور, ووسط هذه الاحداث يتعرف الكاتب المغمور على (وليد) الشاعر المخادع والكاذب والمحتال, ليمكر بالجميع, فيقنع عباس ليبيع محله ب 500 دولار, ثم يقنعه بشراء سجادة ثمينة بال 500 دولار كي يبيعها لاحقا ب1000 دولار, ويحصل هذا بموافقة الكاتب المغمور الذي انطلت عليه حيلة وليد, لكن سذاجته جعلته يقع هو وعباس ضحية لوليد, فتسرق السجادة وتضيع معها الدولارات.
وبعدها لم يجد “الكاتب المغمور” لإنقاذ الموقف الا ان يبيع الاستوديو ب 1500 دولار, فيعطي 1000 دولار لعباس كي يطير الى المغرب, وباتفاق ان يرسل له عباس المال بعد ان يتزوج هناك, لكن انقطعت اخبار عباس, ثم بعد ثلاث اشهر وبعد ان كتب رسائل عديدة يتوسل عباس ان يرسل له الالف دولار يأتيه الجواب الصاعق بان (عباس وقع في مكيدة لعصابة مغربية, ثم السلطات المغربية تقبض على عباس مع العصابة, وبعد ان لمم يثبت عليه شيء تم تسفيره الى بغداد.
هنا تتحطم احلام الكاتب كليا, فلا رواية ولا مال ولا شهرة ولا نساء ولا هجرة, لكن حصل للكاتب المغمور انعطافه كبيرة, حيث يقرر ان يلاحق حلمه في بغداد, وهكذا ينجح اخيرا.
· مهارات علي بدر
اجد علي بدر في هذه الرواية كعازف الغيتار او كرسام محترف يجيد وضع الالوان وخلطها, انها المهارة في الخلط والتوزيع, فنلاحظ اولا اجادته لخلط انواع متعددة من اجناس الرواية ضمن قالب واحد, وهذا اكثر ما ادهشني في هذه الرواية, فجمع بين الرواية التاريخية والرواية الكوميدية معها الرواية السوداوية, والرواية الرومانسية وتخللها الرواية السياسية, ثم الفنتازيا, بل جاء حتى بالرواية الايروتيكية, ولو ان الاتيان بالايروتيكية نعتبره من سيئات علي بدر, فمشاهد الجنس المفصلة هي لا تناسب مجتمعنا وقيمنا, وتقف بالضد من المسؤولية الاخلاقية للكاتب.
علي بدر ابدع في قضية سرد التاريخ, من زمن الملكية والتغييرات السياسية, بواسطة الاشخاص, من الكاتب المغمور الى سعاد التركمانية وحتى وليد المحتال, فشاهدنا شريطا للعراق الملكي, ثم التحول للجمهورية, ثم الصراع بين الشيوعيين والقوميين, واخيرا حرب الكويت والحصار.
كل هذا وهو يقوم بتحريكها بأسلوب سلس ومنسجم مع ما يحبه المتلقي, كمحترف يفهم القارئ جيدا, كان القلق واللهفة والترقب معنا سطرا بسطر, ونحن ننتظر ما سيقوله “علي بدر”, افكار ورؤية, حقائق وخيال, فيأتي في هذه الرواية على مرحلة مهمة من حياة الشعب العراقي, الا وهي مرحلة الحصار الاقتصادي حيث الفقر والعوز والاضطهاد, مع انتشار مظاهر الاحتيال والمكر في عالم غريب يعيش تحت قهر السلطة المستبدة, كل هذا صوره علي بدر في روايته بأسلوب رشيق ومتكامل, خصوصا انه من جيل التسعينات والذي ادرك قسوة تلك المرحلة, ذلك الجيل الذي طحنته الحروب والحصار فيحمل معه صور تلك المرحلة وعذابات الانسان العراقي وهمومه ومخاوفه.
· الحصار والسوداوية والكفاح
يسرد لنا علي بدر احداث تحصل في زمن الحصار, الذي سحق الشعب العراقي واثر في قيم المجتمع, حيث يتجول الكاتب في بغداد ايام الحصار الذي انهك البغداديين, حيث سياط الجلادين المتسلطين تلاحق ابناء البلد, وظهور فئة من التجار الجشعين تزيد من اذلال المساكين, وذلك الخبز العجيب الذي كنا نتناوله والمخلوط مع نشارة الخشب, والوجوه الشاحبة التي نصادفها في كل مكان, حيث بدأ ينتشر الخراب الاخلاقي, نتيجة تراكمات شديدة الضغط على المجتمع من حروب وحصار, حيث اصبح حلم كل عراقي هو الهجرة من هذا السجن الكبير الى اي مكان بالعالم والذي حتما سيكون افضل, واليك صورة من الرواية لزمن الحصار: ” الطحين شحيح, السكر لا وجود له, واللحم يا الهي أكثر الاطفال لا يعرفونه, لانهم لم يروه مطلقا! كيف يمكن ان تنجو بجوعك دون أن تؤذي الاخرين” – ص 198 – .
منطلق الرواية ذلك الكاتب المغمور الحالم, وذلك الاستوديو الصغير الواقع في الكرادة, وفي شارع مستشفى الراهبات بالتحديد, حيث ورث الاستوديو عن جده, فتحول الاستوديو لسكن ومكان للبحث عن الذات.
يمكنني القول ان الروائي علي بدر نجح بامتياز في التعبير عن ذلك الزمن الحزين, وهذا لا يمكن التنصل عنه.
لقد برع الكاتب في رسم الشخصيات والاماكن لتلك الفترة, وعبر بأمانة عن الواقع العراقي في تلك الفترة, من يقرأ الرواية يستشعر ما كان عليه اهل العراق من ايام محنة, ويحاول الكاتب اظهار كيف تغيرت اخلاق المجتمع وانتشر الكذب والخداع في سبيل لقمة العيش, لقد كنت متلهف جدا مع الكاتب المغمور لأعرف اين سيصل في متابعة احلامه, وهو يسير في طريق ملغوم بالمخادعين, الحقيقة طريقة السرد كانت بتقنية عالية وباحترافية نشيد بها.
· فكرة الاخفاق والخيبة
يسرد لنا الكاتب علي بدر قصة لجملة من الخيبات, لبطل الرواية وللشخصيات الاخرى, حيث يخفق الكاتب المغمور في العمل وفي كتابة رواية كما كان يحلم, وفي الحب كما كان يشتهي, وكذلك يخفق عباس في ملاحقة حلمه الذي تحول الى كابوس, وتخفق تمارى في ايجاد حياة كريمة, وحتى وليد المخادع كان يعاني من الاخفاقات المتلاحقة, انها اسقاطات لجيل كامل كان يعاني من الاخفاق والخيبات التي لا تنتهي.
كأن الكاتب يريد ان يقول: اننا جيل منحوس, بسبب القيادة السياسية للبلد والتي حملنا اخطاءها لنجبر لاحقا بتحمل تبعات تهورها في غزو الكويت, من دون ان يكون لنا ذنب, وهكذا تتحطم كل الاحلام في بغداد, نعم كنا نحلم بكل شيء جميل, الحب والنساء والعمل والشهرة والصحة والمال, لكن تحطمها يعود لأننا كنا نحلم بطريقة خاطئة, كان كل شيء في المكان الخطاء, فيمكن ان نغير من نمط تفكيرنا لنصل لنجاح في زمن الخيبة.
· اعادة احياء الذاكرة العراقية
عندما شرعت بقراءة الرواية بدأت اشعر مع سطورها انني في ذلك الزمن الصعب, حيث عادت للحياة ذاكرتي لتلك الايام الكالحة, زمن اسواق “البالة” والرفاق البعثيون والزيتوني المخيف, زمن الباذنجان كوجبة متيسرة لكل العراقيين, وذلك الخبز العجيب الذي هو فقط بالاسم خبزا, والمخلوط من الشعير ونشارة الخشب وبذور التمر.
زمن الاحتيال والنصب الذي يمارس في كل مكان من دولة صدام, حتى ان الاخ يحتال على اخيه, والصديق يغدر بصديقه, زمن انتشار العاهرات في سبيل العيش, كنتاج لواقع صنعته السلطة.
هكذا يبدأ علي بدر رسم ملامح روايته لينطلق في بغداد الفقر والاحتيال والرعب, والجميل الذي فعله علي بدر هو اتخاذه من الكرادة مكانا للأحداث, باعتبارها منطقة للتعايش بين مختلف مكونات المجتمع العراقي المذهبية والدينية والقومية, ويبرز الكاتب الشخصيات السلبية مثل وليد المخادع المحتال, والعاهرة سعاد التركمانية, وعباس الساذج التافه, وتمارى التي تمارس الاغواء كعمل ورثته عن امها, وقد اهتم الكاتب في زرع الاوهام في عقول شخصياته, حيث يغيب الأدراك للفرز ما بين الوهم وما بين الحلم المشروع الممكن ان يتحقق, ويصبح وهم الهجرة هاجس للبطل “الكاتب المغمور” ول “عباس” ول “وليد”.
ويدعونا الكاتب ان نلاحق الافكار المثمرة, بدل الاوهام والكوابيس التي لا تبني انساناً.
· تساؤلات مشروعة عن دوافع الايروتيكية
الرواية مليئة بالمشاهد الجنسية والشخصيات العاهرة والشاذة والمحتالة, فما هي الدوافع لذلك, هل النتاج الادبي اصبح لا ينجح الا بمشاهد الجنس والايحاءات الجنسية؟ ام ان المجتمع اصبح كما رسمه الكاتب لذلك جاءت الرواية انعكاس للواقع, ام هي فكرة الكاتب الخاصة عن المجتمع, فالبيئة المحيطة تأثير شديد في نتاج الكاتب, لذلك لا شعوريا يرسم الكاتب عن بيئته, تعبيرا عن حالات نفسية محبطة وقلقه, لذلك جاءت شخصيات الرواية شخصيات مأزومة حياتيا وعاطفيا.
فالعمل الروائي ليس مجرد فضفضة سردية في وصف الاجساد النسائية وشكل ملابسهن الداخلية, ووصف دقيق للممارسات الجنسية والاهتزازات اللاشعورية, انه سرد قبيح لا يضيف بقدر ما يحط من العمل الادبي,
فالكاتب عندما يقع فريسة الايروتيكية يتحول خطابه لفئة معينة وهي: للمراهقين والجائعين جنسيا والمرضى نفسيا فقط, حيث يتناغم مع خيالاتهم عن الجنس والاستمناء ومشاهد الجسد والجوع الجنسي, فانظر الى حجم الهبوط بالعمل الادبي عند الاعتماد على الايروتيكية.
وعندما نعترض على استخدام الجنس بكل تفاصيله الدقيقة في العمل الادبي يعترضون, فيقولوا هو نوع من انواع الكتابة الروائية, وانا اجده انحراف في العمل الادبي وبحثا عن زيادة عدد المبيعات! كالذي يضيف للمجلة او الجريدة صور نساء عاريات وقصص جنسية بقصد رفع عدد القراء, كذلك “بعض الادباء” فهم يقحمون النص الادبي بمشاهد الجنس بحثا عن رفع عدد القراء, انها اشياء لا يجب ان تضاف اليه, لأنها لا ترفعه بل تحط منه.
· في النهاية:
علينا الاعتراف بان الرواية كصنعة, جاءت متماسكة وشديدة السبك في محتوى أحداثها, وهذا من اهم مؤشرات نجاح الرواية