كلاهما , غوركي و ماياكوفسكي , يرتبطان في الوعي الاجتماعي العام لدى القراء والمتابعين للادب الروسي بتاريخ روسيا السوفيتية و ايديولوجية ثورة اكتوبر 1917 بعد انتصارها و بشكل واضح وساطع , وكلاهما سوفيتيان (حتى نخاع العظام ) كما يقولون و يعدّان – بشكل او بآخر – لسان حال تلك الثورة وافكارها في مسيرة الادب الروسي وتاريخه , رغم ان غوركي ولد عام 1868, وماياكوفسكي ولد عام 1893 , ورغم ان غوركي توفي عام 1936 , وانتحر ماياكوفسكي عام 1930 . ومع كل هذه الوقائع و الحقائق الثابتة, فان علاقة غوركي وماياكوفسكي واقعيا كانت متوترة , لدرجة , ان هناك مصدر روسي يتناول هذه العلاقة بينهما جاء بعنوان مثير و غريب وطريف , وهو– ( علاقة جيدة لماياكوفسكي بالخيول وسيئة بغوركي ) , وهو عنوان ساخر طبعا , الا انه حقيقي فعلا , اذ انه يعبّر بشكل واضح عن واقع تلك العلاقة , وقد تم ايجاز هذه العلاقة المتوترة ايضا في عنوان بحث آخر حول ذلك الموضوع , وهو – ( غوركي وماياكوفسكي – صداقة عاصفة وقصيرة), ونود في هذه المقالة القاء الضوء على هذه العلاقة بين اديبين كبيرين في تاريخ الادب الروسي , خصوصا واننا لم نجد انعكاسا لهذا الموضوع في مصادرنا العربية بتاتا , رغم التعاطف الكبير للقراء العرب تجاه هذين الاسمين , ورغم المصادر العربية الكثيرة حولهما .
ابتدأ غوركي طريقه الابداعي في نهاية القرن التاسع عشر , واصبح اسما كبيرا ولامعا في مسيرة الادب الروسي آنذاك , وارتبط بصداقات مع الادباء الروس الكبار البارزين في ذلك الوقت مثل تولستوي وتشيخوف وغيرهم , وكان يراسلهم ويلتقي بهم ويكتب عنهم , وكانت له علاقات ونشاطات ومواقف سياسية مع الحركة الاشتراكية الروسية وقادتها , بما فيهم لينين نفسه , اما ماياكوفسكي , فقد ابتدأ نشاطه الابداعي بعد غوركي ( بحكم سنين العمر طبعا , فالفرق بينهما ربع قرن ) , وعندما بدأ نجم ماياكوفسكي بالسطوع في دنيا الادب الروسي في بدايات القرن العشرين , كان غوركي الاسم الاكبر و الاكثر شهرة وسطوعا في ذلك الادب والفكر خصوصا بعد رحيل تشيخوف وتولستوي , وبالتالي , فقد اصبح غوركي وكأنه الاب والراعي والوصي على الادباء الشباب . وبالفعل , بدأ غوركي يكتب عن هؤلاء الادباء الجدد , ويراسلهم ويراسلوه , ويقدمهم للصحف والمجلات الادبية ودور النشر…الخ , اي بدأ يؤدي فعلا دور الوصي الامين لرعايتهم واسنادهم , ولكن ماياكوفسكي كان منذ بداياته متمردا على كل التقاليد السائدة في الثقافة الروسية , واراد ان يخط لنفسه طريقه الخاص به واسلوبه في الادب والفن التشكيلي وحتى في المسرح والسينما . يتحدث بعض الباحثين في تاريخ الادب الروسي عن هذه النقطة بتفصيل , ويرون , ان غوركي بدأ يشعر , ان ماياكوفسكي ربما سيشغل موقعا متقدما وبارزا في مسيرة الادب الروسي , وانه بالتالي يمكن ان ينافسه في صدارة هذا الادب , بل ان بعض الباحثين أشاروا بشكل مباشر الى ان غوركي بدأ ( يغار!) من ماياكوفسكي , وهذه كلها آراء ذاتية طبعا , ولا يمكن الاتفاق معها او حتى اخذها بنظر الاعتبار دون دراسة شاملة و دقيقة ومتأنية ونظرة تحليلية موضوعية وعميقة لها .
بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 , ترك غوركي روسيا السوفيتية ثم عاد اليها, اما ماياكوفسكي فقد بقي في روسيا طوال الوقت , وظهرت على السطح الخلافات بينهما في العشرينات , بما فيها الاقاويل والثرثرة والاشاعات هنا وهناك ( و لا نريد التوقف عندها لأنها لا تستحق ذلك ), وقد كتب ماياكوفسكي قصيدة عام 1926 بعنوان – ( رسالة من الكاتب فلاديمير فلاديميروفيتش ماياكوفسكي الى الكاتب مكسيم مكسيموفيتش غوركي ) , حيث اراد ماياكوفسكي ان يقول في عنوان القصيدة , انه كاتب وغوركي كاتب ايضا , اي انهما متكافئان , وهذا اولا , واراد ثانيا ان يعلن على الملأ انهما متخاصمان , بل وتبتدأ القصيدة هكذا بالضبط –
اليكسي مكسيموفيتش
كما أذكر,
حدث بيننا
شئ ما-
مثل عراك
او خصام
القصيدة طويلة , ومكتوبة باسلوب ماياكوفسكي المباشر والعنيف والمتطرف , ويمكن ان نسميها حسب المفاهيم العربية انها قصيدة هجاء, حيث يسخر ماياكوفسكي من غوركي ,ولم يكن مسموحا التكلم عنها في الفترة السوفيتية طبعا , وعندما كنّا طلبة في الجامعات السوفيتية لم نسمع حتى بها . غوركي لم يكتب شيئا مضادا للقصيدة او لماياكوفسكي , الا انه ذكر رأي الآخرين في مقالة عنه , وقال فيها , ان ماياكوفسكي ( لم يقدّم لنا شيئا جديدا ) , وهو رأي سلبي حول ماياكوفسكي طبعا , رغم انه طرحه باسم الآخرين.
موضوعة غوركي وماياكوفسكي لازالت مطروحة امام الباحثين ونقاد الادب في روسيا , وهي تحتاج الى دراسة موضوعية معمقة تستند الى نصوص مكتوبة قبل كل شئ من قبلهما , ثم الاطلاع على ما كتبه اناس كانوا يحيطون بهما آنذاك حول ذلك الخلاف , وتحتاج طبعا الى تحديد بدايات هذا الخلاف واسبابه , ونأمل ان تسمح الظروف للعودة الى هذا الموضوع لاحقا .