الى روح استاذ جيلنا المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر.
انعقد المؤتمر الاول لاتحاد الادباء السوفيت في 17 آب/اوغسطس 1934 بموسكو, و تأثير هذا المؤتمر معروف على مسيرة الاداب السوفيتية طوال كل تلك السنين وانعكاس مفهوم الواقعية الاشتراكية سوفيتيا وعالميا, بما فيها عالمنا العربي,واذكر مرة, ان المرحوم الاستاذ الدكتور علي جواد الطاهر هاتفني وقال لي, انه يريد ان يعرف مني اجابة دقيقة عن اسئلة محددة بشأن الواقعية الاشتراكية ودور مكسيم غوركي فيها, وامطرني بأسئلة متفرعة من تلك القضية لدرجة اضطرتني ان اقول له, ان ذلك مستحيل في اطار هذه المكالمة الهاتفية, اذ ان ذلك يقتضي الرجوع الى عدة مصادر بشأن ذلك. وقد رجعت فعلا الى كتاب كان موجودا في مكتبتي ببغداد عنوانه – ( المؤتمر الاول لاتحاد الادباء السوفيت) , والذي يحتوي على وقائع كل ما جرى في ذلك المؤتمر, ولكني لم استطع ان أجد الاجابات الشافية لكل تلك التساؤلات التي طرحها عليٌ استاذنا المرحوم الطاهر, وبالذات بشأن ما يتعلق بموقف مكسيم غوركي من كل ذلك. وهكذا حالت الظروف العراقية المتشابكة المعروفة من الاجابة عن كل هذه الاسئلة. لقد كان واضحا من كلام المرحوم الطاهر بانه لم يكن مقتنعا بالاجابات الموجودة لديه في نهاية ثمانينات القرن العشرين حول كل تلك المواضيع, واحاول الان , بعد مرور اكثر من ربع قرن على تلك المكالمة الهاتفية ان اجيب عن تساؤلات استاذنا المرحوم علي جواد الطاهر, ولهذا السبب اهديت هذه المقالة لروحه الطاهرة.
ارتبط مكسيم غوركي بمصطلح الواقعية الاشتراكية , واشارت الكثير من المصادر, بما فيها المصادر العربية, الى ذلك, والى انه هو بالذات من صاغ هذا المصطلح الادبي المشهور, ولكن البحوث الجديدة التي ظهرت الان تشير الى عدم دقة هذه المعلومات.لقد ذكرت المصادر التي تم نشرها في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين , اي زمن ما يسمى ب ( البيرسترويكا)والتي تعني ( اعادة البناء), وهي الفترة التي ابتدأت بمجئ غورباتشوف الى السلطة عام 1985 وانتهت في نهاية الاتحاد السوفيتي عام 1991,الى غير ذلك. لقد انتقدوا –في تلك الفترة – غوركي ولاموه,لانه (كما اشاروا) كان يدافع عن السياسة الستالينية في الادب وينفذ ارادة السلطات السوفيتية في هذا المجال ويؤدي دور الرقيب على الادباء السوفيت الذين ( حشروهم وأجبروهم على اعتناق مبادئ الواقعية الاشتراكية )كما كانوا يقولون , وعليه, فان الدور الذي قام به غوركي في المؤتمر الاول للادباء السوفيت كان سلبيا. ان الموقف قد تغير الان, بعد ان صدرت في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين المواد غير المعروفة وغير المنشورة سابقا, والموجودة في الارشيف الادبي لغوركي, هذه المواد التي ألقت الضوء على النشاطات الحقيقية له في تلك الفترة الزمنية.
لقد اوضحت تلك المواد اولا , ان فكرة الرقابة الحزبية على العملية الادبية لم تكن تعود الى ستالين اصلا, وانما الى تروتسكي, والذي كتب الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1922 حول الامزجة لدى مختلف التجمعات والتكتلات الادبية, مشيرا الى ( ضرورة بلورة امزجة التعاطف معنا, وجلب المترددين الى جانبنا, وان ذلك يمكن عن طريق تأسيس مركز موحد يضم هذه المجاميع من الادباء… وان هذا المركز يمكن ان يصبح اتحاد ادباء عموم روسيا ), وهكذا, وخلال العشر سنوات اللاحقة, أخذ الحزب الشيوعي بسياسة الاهتمام بالادباء, وأصدر عدة وثائق مهمة حول ذلك, منها – ( المهمات الاساسية للحزب في مجال المطبوعات) 1924 , و ( عن سياسة الحزب في مجال الادب الفني ) 1925 , و ( عن اعادة بناء المنظمات الادبية – الفنية) 1932, الا ان العملية الادبية سارت بمعزل عن كل تلك الوثائق والتوجيهات, وقد أغضبت بعض الاحيان السلطات السوفيتية . ومن الطبيعي جدا ان يؤدي ستالين دورا محددا ومهما في كل تلك المسيرة. لقد كان ستالين يفهم ويدرك بشكل دقيق وواضح, ان غوركي هو الشخص الذي يمكن ان يكون رئيسا للادباء في ذلك الوقت الحسٌاس, وان غوركي هو الشخص الوحيد الذي يمكن ان يوقف النقاشات الحادة والعنيفة بين المجاميع والتكتلات الادبية آنذاك, ولهذا , وليس من باب الصدفة بتاتا, ان ستالين أجرى لقاءات عديدة وفي غاية الاهمية مع أبرز الشخصيات في مجال الثقافة والادب في بيت غوركي بالذات, وهناك أطلق جملته الشهيرة حول الادباء , والذين اسماهم ( مهندسو الروح الانسانية), وهي الجملة التي كان يستشهد بها الماركسيون طوال عدة عقود من القرن العشرين ,بما فيهم ماركسيو العالم العربي, ويتفاخرون بعظمتها. لقد حاول ستالين ان يؤسس تنظيما بيروقراطيا لقيادة الحياة الثقافية عموما, وفرض بعض الاسماء التي كانت تنفذ ارادته مثل غرونسكي ويودين وميخليس, والذين صاغوا بعدئذ الاسلوب ( الاحادي ) للاداب السوفيتية, والذي تبلور لاحقا , وهو مصطلح ( الواقعية الاشتراكية ), وهم الذين نشروا بالذات في آذار عام 1932 لاول مرة مبادئ هذا المفهوم, والذي تم تثبيته في النظام الداخلي لاتحاد الادباء السوفيت بعد المؤتمر الاول لهم.
اما مكسيم غوركي فقد كان بلا شك يؤيد فكرة تأسيس اتحاد للادباء, وقد أشار في رسالته بتاريخ 24 اذار 1932 الى ستالين الى ان النقاشات بين مختلف التجمعات الادبية تنطلق بالاساس من المصالح الذاتية البحتة, ولا يوجد فيها اسسا ايديولوجية, الا ان ذلك لا يعني ابدا , ان التجمع الادبي – الحزبي سيكون مفيدا للتطور اللاحق لهذا الاتحاد. وكان من الواضح تماما , ان تأييد غوركي لتأسيس اتحاد الادباء لا يعني بتاتا تأييده لتأسيس تنظيم بيروقراطي حزبي يسعى الى اخضاع الادباء للتنظيم الحزبي, وانما كان يدعو الى خلق اتحاد يؤكد على التطور المتنوع للشخصية الابداعية و استقلالها, علما ان غوركي لم يستخدم ابدا مصطلح (الواقعية الاشتراكية) في كل كلماته ومقالاته في تلك الفترة, بل كان يستخدم مصطلح ( الرومانسية الاشتراكية) بعض الاحيان.
لقد عاد مكسيم غوركي نهائيا الى روسيا في صيف عام 1933, وازداد نشاطه التنظيمي والاجتماعي, وأجرى الكثير من اللقاءات مع مختلف ممثلي الاوساط الادبية والثقافية الروسية, وكانت هذه الاجتماعات تؤكد على ضرورة عقد مؤتمر للادباء , ينبثق عنه تنظيم لهم, وكانت الخطة المعلنة, ان ينعقد هذا المؤتمر عام 1933, الا انه اصبح من الواضح ان الوقت لا يكفي للقيام بكل التحضيرات اللازمة, وهكذا برزت فكرة تأجيل عقد المؤتمر الى العام التالي, اي 1934.
لقد تأسست لجنة تحضيرية للمؤتمر في حينها, وعقدت عدة اجتماعات بشأن التحضير للمؤتمر, وقد شارك غوركي وستالين في بعض تلك الاجتماعات, وحاول غوركي ان يتخلص من رئاسة المؤتمر, وعرض على ستالين عدة اسباب صحية لا تسمح له بذلك, الا ان ستالين لم يوافق على ذلك,وعلى الرغم من انه وافق على اقتراح غوركي بتأجيل المؤتمر الى عام 1934, الا انه كان يفهم ويستوعب بدقة , ان غوركي هو المرشح الوحيد لرئاسة المؤتمر والاتحاد المقترح للادباء. لقد أشار غوركي بشكل مباشر الى عدم قناعته بقيادة اتحاد الادباء من قبل ( الصفوة الحزبية )تنفيذا لارادة ستالين, ولكن يجب – بلا شك – ان نتفهم موقف غوركي في هذا الوضع المعقد والشائك والمزدوج. ويمكن ان نتابع هذا الموقف وخطوطه الدقيقة في كلمة غوركي وانعكاساتها على الاخرين , وخير مثال على ذلك الموقف من ماياكوفسكي وثوريته ( وهو موضوع لا يتحمل هذا المقال الخوض فيه).
ان موضوعة مصطلح الواقعية الاشتراكية في الاداب السوفيتية وفي الادب العالمي عموما- مسألة معقدة ومتشعبة وواسعة جدا, ولا يمكن بالطبع لمقالة واحدة ان تختزلها, ولكن هذه المقالة – بلا شك – تطرح هذا الموضوع الكبير على بساط البحث, على الرغم من ان مصطلح الواقعية الاشتراكية يكاد ان يكون منتهيا ( في اطاره الايديولوجي الكلاسيكي المعروف ) في الادب الروسي والعالمي بشكل عام, بما فيه الادب العربي الحديث, وانه اصبح جزءا من الماضي ليس الا, مع الاقرار , ان هذا الموضوع يحتاج الى مساهمة الاخرين بلا ادنى شك .