23 ديسمبر، 2024 2:48 م

غموض مواقف المرجعية يربك حركة الامة ويفقدها الرؤية الصحيحة – 3

غموض مواقف المرجعية يربك حركة الامة ويفقدها الرؤية الصحيحة – 3

هناك العديد من الامثلة على غموض مواقف بعض المرجعيات الدينية تجاه بعض القضايا المفصلية التي عاصرتها خصوصا ً في العقود الاخيرة التي توسع فيها تيار الاتجاه التقليدي للمرجعية الدينية رغم بروز بعض المرجعيات الرسالية التي احدثت قفزة في الحركة الاسلامية وتوجه الناس نحو الالتزام الديني والارتباط بالحوزة العلمية، ومن تلك الامثلة التي عاصرناها سأذكر اربعة امثلة:
1-  موقف بعض المرجعيات من صلاة الجمعة المباركة التي اقامها السيد الشهيد الصدر الثاني (قد) في تسعينيات القرن الماضي فبرغم تلك الخطوة الجبارة التي فيها نصرة الدين ونفع الامة وكونها من اساسيات الشعائر الدينية التي نص عليها القرأن وحثت عليها روايات العترة الطاهرة ورغم كونها شوكة في عيون الظلمة خصوصا ً نظام صدام وبرغم دعوة السيد (قد) لهم بالحضور والمشاركة في اقامة الصلاة والقاء الخطبة الا ان مواقف اغلب العلماء المعاصرين له (قد) كانت سلبية فبعضهم اعتذر عن الدعوة ولم يحضر ولم يوجه اتباعه بالحضور وبعض اخر وقف موقف المتفرج ولم يسجل حتى اعتذار عن الدعوة بل صدر عن مكاتب البعض قولهم بأن صلاة الجمعة فتنة ولا ينبغي حضورها والغريب ان هذه المواقف لا تنسجم مع ارائهم الفقهية التي اوردوها في رسائلهم العملية التي تخير المكلف بين حضور الجمعة او اداء الظهر واعتبار الجمعة افضل من اقامة الظهر اي ان هناك استحباب في اقامة الجمعة لذلك كان المفترض هو حث الناس على حضورها لنيل الثواب او العمل بالاحتياط لقول الاتجاه الاخر من الفقهاء بالوجوب التعيني.
      وهذه المواقف الغامضة اربكت استجابة الكثيرين لحضور الجمعة في بداية الامر، لكن بمرور الوقت شاهد الناس فضل هذه الشعيرة وعاشوا بركات اقامتها فانخرطوا في جموع الحاضرين متجاوزين تلك المواقف السلبية، لكن بعض اخر بقي على موقفه بل ان بعضهم كان يقف بالضد من هذه الشعيرة متذرعا ً بمنع بعض المرجعيات من الحضور، ولو كانت المواقف واضحة وايجابية وتلحظ مصلحة الدين لكانت داعمة لحضور الجمعة ونصرة السيد (قد) الذي اصبح قائد الحركة الاسلامية في قبال نظام صدام وزمرته، ولو كانت المواقف كذلك وحضروا هم الى الصلاة وساندوا حركته (قد) لتوحدت مواقف الناس وتجنبوا الكثير من حالات الجدل العقيم ولاصبحت الحوزة ومن خلفها الجماهير بمستوى من القوة يصعب على النظام تقويضها لان الحركة عندئذ تكون بقيادة كل العلماء وليس السيد (قد) لوحده وهو ما دفع النظام لقتله (قد) باعتباره مصدر الحركة الوحيد وستنتهي بنهايته.
      وقد عبر السيد (قد) عن المه لهذه المواقف في الكثير من مواطن كلامه ومنه ما قاله في الخطبة الموحدة في الجمعة السابعة والعشرين ((انه قالت جماعة من الحوزة ولعلها لا زالت تقول ان اقامة صلاة الجمعة فتنة وانما الفتنة هم الذين فتحوها باصرارهم على عدم الحضور ولو حضروا لكان هذا الانتصار اكثر واتحاد الحوزة والمذهب اكثر حتى انني قلت انه بغض النظر عن السلاح فاننا نستطيع عندئذ من الناحية المعنوية ان نواجه اسرائيل نفسها ونقول لها كلا ثم كلا ارجعي من حيث اتيت فهم بعدم حضورهم قد القحوا الفتنة واوجدوها ونصروا اعداء الدين والمذهب مع شديد الاسف من حيث يعلمون او لا يعلمون)).
2-    الموقف الفقهي من قضية التطبير لبعض العلماء حيث يصدرون فتاواهم بخصوص هذه الممارسة بصيغة مشروطة فيقولون بجوازه اذا لم يوجب توهين الدين ولا إيذاء النفس ويتركون تقدير تحقق هذين الشرطين من عدمه في عهدة المكلف، وهنا تحصل التفسيرات والاختلافات بين الناس، فمن يرغب بالتطبير ينفي وجود التوهين والايذاء ومن لا يرغب به يقول بوجودهما وتكثر المناقشات العقيمة والجدال غير النافع، وكان الاجدى بهؤلاء العلماء حسم المسألة بحسب ما يرونه هم، فاذا كان في هذه الممارسة ما يرونه من التوهين او الايذاء فليقولوا بالحرمة والا فليقولوا بالجواز، فالمرجعية اولى من المكلفين بمعرفة مدى تحقق هذين الشرطين لانها الاعرف منهم بالدين وما يوجب توهينه واعرف بمصالح الناس من انفسهم فتستطيع تحديد مقدار الايذاء كما ان تقديرها للامور لا ينطلق من الرغبات والعواطف كما هو شأن عوام الناس بل ينطلق من الاساس الشرعي والتفكير الموضوعي.
     وهذا الاسلوب من ايضاح الحكم وترك تقدير الموضوع للمكلف يصح للحالات التي لا يستطيع الفقيه تحديد موضوعاتها كبعض القضايا الخاصة بالمكلف كما في مسألة افتاءهم بجواز الافطار في شهر رمضان اذا كان الشخص مريضا ً، فالمكلف هو الذي يحدد مقدار المرض بحيث يضره الصوم او لا، او من خلال استشارة الطبيب فالمسألة او الموضوع ليس في ساحة الفقيه لانه امر خاص بالمكلف فيصح ايكال تقدير الامر له، اما في مسألة التطبير فالموضوع عام وواضح وليس قضية خاصة او بعيدة عن نظر العالم او قضية تخصصية في مجال معين بحيث يترك تقديرها للمختصين، فالممارسة تجرى علنا ً واثارها السلبية والايجابية تكون ملموسة للمتتبع الواعي، ومن اوعى من المرجعية او اكثر تتبعا ً منها لامور الدين والناس حتى يوكل الامر الى المكلفين؟!.
3-  الموقف من الوضع السياسي الراهن والموقف من المشاركة في الانتخابات، فرغم الحال المأساوي الذي وصله الواقع العراقي في كل الصعد نتيجة سياسة فاسدة وفاشلة للمتصدين في العملية السياسية طوال السنين الماضية الا اننا لم نرَ موقفا ً  حازما ً للمرجعية النافذة الكلمة تجاه ما يحصل ووضع حلول حقيقية للحد من هذا النهج الخاطئ واستمرار تصدي الفاسدين مكتفين ببعض النقد من على منابر الجمعة او رفض مقابلة السياسيين وبعض الخطوات الشكلية التي لا تشكل اي تهديد لهم، وكان الاجدى بالمرجعية وهي مسؤولة عن الدفاع عن حقوق ابناءها ورفع الحيف والظلم عنهم ان تتخذ خطوات جادة في الضغط على المسؤولين لتعديل مسار عملهم وايقاف هذا التدهور الذي اوصلوا البلد له، وان لم يستجيبوا لذلك فتمارس صلاحيتها ومكانتها في المجتمع وتوجههم لرفض وجود هذه الوجوه مرة اخرى في البرلمان او الحكومة او اختيار رجال اكفاء من غير هذه الوجوه وتقديمهم للناس كمرشحين بدلا ً عن الفاشلين.
       فالمرجعية اذا كانت متواصلة مع المجتمع بالشكل المطلوب فينبغي ان تكون لها معرفة ببعض الشخصيات الكفوءة والنزيهة فتدفعهم للعمل السياسي وتوجه الناس لاختيارهم، واذا لم تكن تعرف امثال هؤلاء فهذا يعني بُـعد المرجعية عن المجتمع وانزواءها وعليه فهي لا تصلح لهذا الموقع. لكن الغريب اننا نجد منابر المرجعية في كربلاء مثلا ً توجه الناس بضرورة المشاركة ودفعهم بقوة نحوها في حين ان القوائم المرشحة هي لنفس الكتل المتصدية، واذا كان هناك مرشحون مستقلون وجُدد ضمن هذه القوائم فهو لا يعدو كونه سحب اصوات الناس عبر هؤلاء الذين لن تصل عدد اصواتهم الى المقدار الذي يجعلهم ينافسون مرشحي هذه الكتل الذين سيحصدون الاصوات الاعلى بحسب توجيه اتباعهم لاختيار مرشحيهم الخاصين فيحوزون مقاعد القائمة، وبالتالي سيكون هؤلاء المستقلون خارج اللعبة خصوصا ً وان الكتل السياسية المهيمنة قد صاغت قانون الانتخابات على قياس مصالحها كما في تعديلهم لطريقة سانت ليغو او في عدد المرشحين في كل قائمة، ومنه نعرف ان دفع المرجعية الناس الى الانتخابات دون توفير البديل الناجح او دون الاشارة الى من يتم التصويت لهم هو ارباك للناس.
      فالناس من جهة مأمورون بالمشاركة في الانتخابات من قبل المرجعية ومن جهة اخرى فان المرشحين الرئيسين هم نفس الوجوه ولا جديد فيها الا من باب خداع الناس وذر الرماد في العيون وبالتالي تركت المرجعية الناس في حيرة من امرهم. وتستطيع المرجعية الان ان تقلب الطاولة على هؤلاء الفاشلين بتوجيه الناس الى عدم تكرار الذين تواجدوا في الدورات السابقة وترشيح مستقلين لا ينتمون الى احزاب هؤلاء لتكون محاولة لتوفير وجوه جديدة في العملية السياسية، ولكن هل ستفعل ذلك؟      
4-   موقف المرجعية (العليا) من قانون الاحوال الشخصية الذي يتيح للمواطن اجراء معاملاته الشخصية حسب الشرع المقدس الذي تؤمن به الطائفة الشيعية حيث ان القانون الوضعي فيه مخالفات شرعية، وقد حظي القانون المقترح بدعم معظم المرجعيات المعروفة لكن موقف المرجعية (العليا) ظل غامضا ً رغم ان مسودة قانون الاحوال قد ارسلت الى مكتبها قبل اكثر من عام وظل الموقف غامضا ً بعد ان تم اقتراحه من وزير العدل وتداولته وسائل الاعلام وحصل جدل في اوساط عديدة بشأنه اي انه اصبح امرا ً واقعا ً فكان على المرجعية ان تبدي رأيها بشأنه ومدى مطابقته للشريعة من وجهة نظرها الفقهية بل كان يفترض ان تدعمه وتدعو الاوساط السياسية الى اقراره واذا كان فيه بعض الملاحظات فيتم تعديلها، ولما ظل الموقف غامضا ً بدأت بعض الجهات تنقل بعض المواقف عن المرجعية العليا كما فعلت وزيرة المرأة حينما نقلت الى مجلس الوزراء ان المرجعية العليا لا تؤيد تمرير القانون ناقلة ذلك عن معتمد المرجعية في كربلاء (بحسب ما نقلت الوزيرة) وقد ساهم هذا الموقف في تأجيل النظر في القانون الى ما بعد الانتخابات القادمة بعد معرفة رأي المرجعية مما سبب هذه الانتكاسة حينما يعرقل تطبيق شرع الله وبأسم المرجعية وظل هذا الموقف غامضا ً ولم يصدر من المرجعية نفسها ولا من منابر الجمعة التابعة لها اي تصريح او موقف سوى جواب استفتاء من مكتبها يكذبون فيه توجيه المرجعية العليا بعدم تمرير القانون وبيان اخر صادر عن مقرب من المرجعية يبين فيه عدم تحمل المرجعية العليا مسؤولية عدم الاقرار، وكان الاولى من ذلك هو صدور موقف من المرجعية نفسها وليس مكتبها او مقرب عنها يبين فيها رأيه بأصل القانون وتشريعه لاسيما بعد ان علق مجلس الوزراء وهو اعلى سلطة تنفيذية في البلد نظره بالقانون على رأي المرجعية العليا، فهل من الصحيح ان يبقى الموقف غامضا ً رغم مرور حوالي شهرين على هذا القرار؟! وهذه المواقف الغامضة انعكست على تشوش في رؤى ومواقف ابناء المجتمع ومنه يعرف حجم الاثار السلبية التي نتجت عن ذلك الغموض في موقف المرجعية.
        نسأل الله ان يحفظ علمائنا العاملين وان يتفضل عليهم بالزهد والنصيحة وان يسدد خطاهم وينفع الامة بمدادهم انه سميع مجيب واخر الدعاء ان الحمد لله وصلواته على نبيه الكريم واله الاطهار.