بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى وصلواته على نبيه واله
مما لا شك فيه ان المرجعية الدينية تمثل قطب الرحى في حركة الامة والقلب النابض بجسدها والذي يمدها بالتموين الفكري والروحي والحركي وهي السفينة التي تؤويهم وتنجيهم من اموج الفتن والشبهات وظلمات الانحراف والتيه وتقودهم نحو الخير والكمال والصلاح والاستقامة، وهذه هي الوظيفة التي اناطتها الشريعة المقدسة بالفقهاء باعتبارهم الامتداد الطولي لحركة الرسل ((الفقهاء امناء الرسل)) وباعتبار موقع الفقهاء في نيابة الائمة المعصومين (ع) في عصور الغيبة الكبرى لتأدية مهامهم في حفظ الشريعة وقيادة الامة ورعايتهم والدفاع عن حقوقهم ورفع الحيف والظلم عنهم كما ورد في الرواية عن الامام الهادي (ع) ((لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين اليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي احد الا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون ازمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها اولئك هم الافضلون عند الله عز وجل)).
وهذه الوظيفة العظمى للفقهاء وخصوصا ً الفقيه الجامع للشرائط الذي ترجع اليه الامة في تقليدها تتطلب ان يقوم بمجموعة ادوار في المجالات الفقهية والفكرية والتربوية والاجتماعية والسياسية لتحقيق الغرض من التخطيط الالهي لتلك الوظيفة. وواحدة من هذه الادوار هو ان تكون للمرجعية مواقف رسالية وواعية تجاه القضايا التي تؤثر في مصير الافراد والامة دنيويا ً واخرويا ً، وهذه المواقف تأتي لتنبيه الامة على بعض الاخطار والفتن التي تعصف بها وتبين التكليف الشرعي لها وتشخص فيها التحديات القائمة ودورالامة في مواجهتها وتواجه من خلالها الانحراف والخلل وتنهى عن المنكر وترد كيد الاعداء وتدافع عن الدين وتنصر الحق واهله. اما عدم وجود تلك المواقف للمرجعية خصوصا ً تجاه القضايا المهمة في حياة الامة فانه يسهم في تخبطها وتشتتها وجهلها ويؤشر تقصير المرجعية في اداءها لتكليفها ويعرضها للمحاسبة بين يدي الله تعالى كما ورد في الحديث ((اذا ظهرت الفتن فعلى العالم ان يظهر علمه وأن لم يفعل فعليه لعنة الله)).
ان ضرورة وجود الموقف المرجعي تجاه الاحداث المختلفة التي تقع في حياة الامة تنطلق من امرين اساسيين:
1- وجود موقف للشريعة الاسلامية لكل تلك الاحداث والقضايا والوقائع انطلاقا ً من عالمية الرسالة الاسلامية وشموليتها وخلودها وقدرتها على استيعاب كل متغيرات الحياة حتى ورد ((ما من واقعة الا ولله فيها حكم)) وهذا احد اسرار ختم الرسالات والنبوات برسالة المصطفى (ص)، وبما ان الفقهاء هم لسان الشريعة المعبر عن مضمونها وذوقها من خلال انحصار ممارسة عملية الاستنباط الحكم الشرعي من مصادره الاساسية بهم فيكونوا هم المسئولون عن اصدار تلك المواقف كلما استلزم الامر خصوصا ً من قبل المرجعية المتصدية.
2- الالزام الشرعي برجوع ابناء الامة الى الفقهاء لاخذ الاحكام والمواقف من الفقهاء فقد ورد عن الامام المهدي (عج) ((واما الحوادث اواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله))، وهذا الالزام لهم بالرجوع للفقهاء في ما يقع من الاحداث لاخذ المواقف والاحكام مترتب على قيام الفقهاء بتوفيرها وبيانها للناس، وعليه فلا مبرر للتقصير في اداء الفقهاء لهذا الدور المهم.
ولكي تؤتي هذه المواقف ثمارها المطلوبة لا بد من اتصافها بمجموعة صفات اهمها:
1- الوضوح: بأن يكون الموقف واضحا ً جليا ً صريحا ً غير غامض ولا قابل للتأويل وتعدد الافهام.
2- الحكمة: بأن يكون الموقف حكيما ً دقيقا ً منضبطا ً لا تهاون فيه او تخاذل ويخلو من حالات التهور والاندفاع وردود الفعل العشوائية وان يكون مراعيا ً للظروف الموضوعية التي يصدر فيها.
3- الشرعية: بأن يكون الموقف منطلقا ً من روح الشريعة الاسلامية منسجما ً مع مقاصدها غير نابع من توجهات شخصية او فئوية وغير خاضع لأهداف ضيقة او مجاملات او تصفية حسابات.
4- المبدئية: بأن يكون الموقف مبدئيا ً لا خضوع فيه ولا تراجع تحت محاولات الضغط والابتزاز.
5- وحدة المواقف: بأن تكون مواقف المرجعيات المتعددة قدر الامكان موحدة في القضايا المفصلية لتكون فاعلة ومؤثرة وهذا لا يعني تنازل مرجع معين عن الموقف الذي يرى فيه الحجة بقدر ما يسعى الجميع للتحاور والتشاور في تلك القضايا والاحداث في سبيل الخروج بموقف يوحد مواقف ابناء الامة حيالها، وكل ذلك مناط بمقدار التواصل بين المرجعيات وانفتاحها على بعضها وصياغة عملها في اطار مؤسساتي منظم.
بالاضافة الى ضرورة مراعاة الامور التنظيمية عند اصدار تلك المواقف كالتوقيت المناسب لطرحها والاعلام الجيد عنها وعرضها وتسويقها للجمهور بالاليات المؤثرة وغيرها من الامور.
ان افتقاد مواقف المرجعية لاي صفة من الصفات اعلاه يحد من فاعليتها وتأثيرها وقد يجعلها مواقف ركيكة وغير مثمرة، وهنا اود الاشارة الى افتقاد بعض مواقف المرجعيات الدينية الى صفة مهمة وهي الوضوح اي حينما تكون مواقفها غامضة تجاه قضايا الامة المختلفة وبيان ما يترتب عليها من نتائج، وهذا الغموض قد يأخذ اشكال متعددة كعدم وجود موقف اصلا ً تجاه بعض القضايا او وجود مواقف لا تمس جوهر القضية وانما تتناولها بشكل سطحي اي ان الموقف يكون من اجل الموقف نفسه وليس للقضية او يكون الموقف مرددا ً بين امرين ويتركون تحديد الحالة على المكلف كما هو شأن البعض في اجاباته الفقهية، او عدم صدور الموقف من المرجع نفسه وانما من جهة لها ارتباط بالمرجع كالمكتب او الابن او شخص مقرب او وكيل له او امام جمعة لدواعي او لاسباب معينة، وغيرها من اشكال الغموض وهي ليست من نسج الخيال بل هي تجارب عاشتها امتنا مع بعض المرجعيات المتصدية وسأذكر بعض الامثلة المعاصرة لتلك المواقف الغامضة.
نكمل الحديث في الحلقتين القادمتين والحمد لله والصلاة على النبي واله