شهدت القرون الهجرية الأولى ظهور الغلاة، أو أصحاب الفرق المحسوبة على الشيعة، بعد الانقسام الكبير في الجماعة الإسلامية، حوالي عام 38 للهجرة. في زمن خلافة الإمام علي (ع) في الكوفة.
ولهذا الظهور علاقة كبيرة بنظام الخلافة الذي ابتكره المسلمون بعد وفاة الرسول (ص). محاولين فيه منع ظهور الملكية، التي كانت تحكم ذلك الزمان. وقد دعت الحاجة إلى وضع شخص ما على رأس الجماعة. على أن لا يختلف شكل حكومته عن الشكل الذي أرساه النبي قبل وفاته.
وقع اختيار كبار رجال تلك الحقبة على أشخاص ينتمون إلى خط الوسط، لحاجتهم إلى زعماء يمتازون بالمرونة والاعتدال. واستبعد أولئك الذين عرفوا بتحرجهم والتزامهم الشديد وقربهم من الزعيم الراحل، وكانوا قلة قليلة. فعكس الاختيار الواقع الفعلي لعموم المسلمين، بعيداً عن الالتزام العقائدي الصرف.
وقد أنتجت الفتوحات الإسلامية طبقة مترفة واسعة الثراء، بسبب قربها من السلطة. وأفرزت إلى جانبها أعداداً كبيرة من الفقراء والمحرومين، البعيدين عنها. وكان من الطبيعي أن تصطف الأخيرة مع المستبعدين من الخلافة. في ما غدا الأوائل الذين بدأت أعدادهم بالتضاؤل، المدافعين الأساسيين عنها.
وقد نشأ فريق صغير من الغلاة في هذه الحقبة التي دامت ستة وعشرين عاماً. وينتمي هؤلاء إلى الجيل الذي لم يدرك عصر النبوة، ووجد نفسه ضمن طبقة المحرومين أو المبعدين عن السلطة. ولا يمكن أن يكونوا ظهروا بعد ذلك فجأة. وعلى أية حال فقد عاصر بعضهم الإمام علي (ع) لقوله: هلك في اثنان محب غال ومبغض قال.
والمبغضون القالون يظهرون عادة حينما يكون هناك محبون مغالون . فلكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه كما لا يخفى! ومن المحتمل جداً أن يكون الفريق الأول ظهر قبل الفريق الثاني. فالمعادلة تصح في هذه الحال أيضاً. بل إن الدلائل ترجح أن يكون هذا الاحتمال هو اٌلأقرب للمنطق. فالموالون للسلطة يمتلكون مصادر القوة التي لا يملكها خصومهم بأي حال من الأحوال.
وغلاة الشيعة الذين تحدث عنهم المؤرخون انقرضوا أو أوشكوا على الانقراض. ومنهم بعض فرق الإسماعيلية والكيسانية والنصيرية والمرجئة وغيرها، مما يصعب حصره أو البت فيه. فحدود المغالاة تتباين من فرقة لأخرى ومن زمن لثان.
وحينما تصاعدت الكراهية ضد آل البيت، وضيقت سبل العيش عليهم، ازداد الغلاة تشدداً، وأخذت الفرق المعتدلة تجنح نحو الغلو أيضاً. أما حينما ظهر جو من الانفراج النسبي كما حدث في أواخر العهد العباسي، فقد خف هذا التشدد وبدا كما لو أنه اندثر تماماً.
وهكذا فإن الغلو لم يكن سمة شيعية فقط، وإنما كان سمة عامة أيضاً. وليس من الصحيح أن يطلق على فرق الشيعة وحدها. بل إن فرق خصومهم هي الأحق بالاسم، وأولى بالمفاضلة منها. يشهد على ذلك ما حدث في هذا العصر من مآس لا تقل خطراً عما حدث قبل قرون، إن لم تفقها تأثيراً. فحينما تقدمت السلفية الوهابية بفضل أموال النفط واجتاحت مدناً عديدة في سوريا والعراق، بدأت الفرق الشيعية المعتدلة تغلو شيئاً فشيئاً، وأخذ أصوات المتشددين بالارتفاع أيضاً. ولا سيما في الشعائر التي تصاحب ذكرى ملحمة عاشوراء الكربلائية.
وكان من المتوقع في أعقاب معركة التغيير الحاسمة عام 2003 أن يذهب الشيعة إلى خلاف ذلك تماماً، بعد أن أظهر زعماؤهم الدينيون ميلاً واضحاً للديمقراطية، وتحمس أفرادهم للذهاب إلى صناديق الاقتراع لاختيار قادة جدد، من بين مرشحيهم الكثيرين.وباتت أفكار مثل حقوق الإنسان واحترام الأديان والتعددية السياسية على كل لسان، فيهم.
لكن تدفق رجال السلفية الجهادية الذين يتبنون آراء الغلاة (ابن تيمية، محمد بن عبد الوهاب) على العراق، وقيامهم بأعمال تفجير وحشية أزهقت أرواح عشرات الألوف من الناس في الأسواق والمدارس والمستشفيات وخربت المدن والمنشآت والبنى التحتية، جعل الشيعة يعيدون النظر في رؤاهم الجديدة. ويحملون السلاح في بعض الأحيان، للرد على هذه الهجمات.
لقد ولدت هذه العمليات ردة فعل شديدة ضد فكرة الحداثة، وجعلت الناس يدركون أن فتح الباب على مصراعيها أمام جميع الأفكار الوافدة لن يكون في صالحهم دائماً. وأن الديمقراطية التمثيلية التي بالغوا في الاحتفاء بها هي المسؤولة عن تقدم خصومهم في الميدان.
إن حماس الشبان المنقطع النظير لمحاربة داعش في أعقاب حوادث عام 2014 هو نتيجة مباشرة لغلو هذه الفرقة، وعبثها بالأرواح والممتلكات والمقدسات.
وحينما يصفو الجو في العراق وسوريا على وجه الخصوص، فإن الأفكار المعتدلة التي تتعالى على الآلام، ستجد طريقها إلى الشارع، ويتضاءل الغلو حتى يخفت صوته نهائياً.