أيها المتفرّج على أسوأ مجزرة في تاريخنا المزيّف، اعلم أنّ في غزّة يولد الإنسان من رماده ليدفن موت الحضارة الكاذبة. فغزّة ليست مدينةً تُقصف، بل ميزانٌ تُوزن به إنسانيّة العالم؛ هذا العالم السفّاح الذي تلطّخت أياديه بدماء فلسطين.
ففي كل لحظة التي تشتعل فيها غزّة، تشتعل روحي .. لأن غزة لا بوصفها مدينة منكوبة وحسب، بل كأفقٍ وجوديٍ يمتحن ضمير العالم، يجد كلّ إنسان حر نفسه مدعوّاً إلى إعادة تعريف ذاته: من هو؟ إلى أيّ صف يقف؟ هل هو شاهدٌ أخرس على المجزرة، أم شاهدٌ عادل على التاريخ؟
إنّ المأساة الفلسطينية لم تعد تفصيلاً عابراً في الجغرافيا، بل صارت معياراً كونيّاً لصدق القيم الإنسانية. فالأم الغزّية التي تحوّل خمارها إلى ضماد لابنها الجريح، وتجري بقدمين منهكتين نحو مستشفى لا كهرباء فيه، تُعلّمنا أن البطولة ليست فعل السيف، بل فعل الروح؛ أن الكرامة لا تسكن في خطاب الأمم المتحدة، بل في يدٍ داميةٍ تشدّ على جرحٍ مفتوح، وترفع الرأس عالياً في مواجهة كونٍ بأسره.
إنها لحظة انكشاف كبرى: الغرب الذي بشّر بالحرية يبرّر القتل، والعالم الذي ادّعى الإنسانية يغطي الإبادة، والمثقف الذي أنفق عمره في التبشير بـ”القيم الكونية” يلوذ بالصمت حين يُذبح الأطفال أمام عينيه. قال سارتر يومًا: “الحرية هي ما تفعله بما فُرض عليك.” واليوم تبرهن غزّة أن الحرية ليست شعاراً فلسفياً، بل قرارٌ في قلب كل مظلوم أن يقف بوجه من أراد سحقه.
ما يحدث ليس صراعاً جيوسياسياً فحسب، بل امتحاناً للأخلاق الكونية. من فينا سيبقى متواطئاً مع خطابٍ صاغته الإمبراطوريات على جماجم الشعوب؟ ومن فينا سيعيد الاعتبار للهوية، لا بوصفها قوقعةً ضيّقة، بل كينونةً تتسع لتجربة الإنسان في أعمق معانيها؟
لقد علّمنا التاريخ أن الحضارات لا تنهض إلّا حين تدافع عن أضعف حلقاتها. من هيروشيما إلى الجزائر، ومن فيتنام إلى جنوب إفريقيا، كانت لحظات الخيانة العالمية تتكرّر: صمتٌ دولي، ثم استعلاء أخلاقي على الضحية، ثم تسويق الجلّاد على أنه “المنقذ”. لكن غزّة اليوم تكسر هذه المعادلة: فدم الشهداء يفضح، وصمود النساء يعرّي، وعيون الأطفال التي لا تخاف الطائرات تصوغ فلسفة جديدة: فلسفة الإنسان المقاوم.
قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة.” وغزّة تقول للعالم: على هذه الأرض ما يستحق الشهادة أيضاً، إن كان ثمنها أن تبقى الكرامة ممكنة. فالمقاومة ليست خياراً سياسياً، بل شرط وجودي: إمّا أن نصمد فنحيا بكرامة، أو نستسلم فنعيش موتاً أطول من الموت.
إنّ من يتخاذل اليوم أمام دماء غزّة، فقد باع ذاته قبل أن يبيع أمته. ومن يساندها لا يدافع عن فلسطين وحدها، بل عن معنى الإنسان في وجه التمدّن الزائف. إنّ من يقاتل الوحوش عليه أن يحذر ألّا يتحوّل هو نفسه إلى وحش، كما يراها الفلاسفة، وغزّة لا تقاتل لتصير جلاداً، بل لتبقى شاهدة على أن الإنسان لا يُمحى مهما اشتدّت النيران.
لسنا أمام حرب عابرة؛ نحن أمام لحظة فاصلة في المسيرة الإنسانية. إما أن يُكتب التاريخ بأن الإنسانية ماتت في غزّة، أو أن يُكتب بأنها وُلدت من جديد فيها. وعلى كلّ مناضل حر، كل كاتب ومثقف وفنان، أن يختار: إمّا أن يكون سطراً في سجل الخيانة بالصمت، أو أن يكون صرخة في وجه الطغيان، شاهداً على أن الحق لا يُهزم حتى لو انهزم أصحابه.
غزّة اليوم ليست قضية وطنية ضيّقة، بل اختبار أخلاقي للبشرية كلّها. فمن لا يساندها، لا يخون فلسطين فقط، بل يخون إنسانيته. وغزّة هي الترجمة الحيّة لهذا التمرّد النبيل، حيث يتحوّل الجرح إلى هوية، والدم إلى كتابة، والأنقاض إلى مدرسةٍ للكرامة.
إننا نكتب لا لنرثي غزّة، بل لنرثي عالماً خانها. نكتب لا لنُسجّل مأساة، بل لنُعلن أنّ الأمل يولد من تحت الركام. وبهذا، تكون غزّة ليست فقط عنوان النكبة، بل أيضاً عنوان الخلاص. وسنبقى نكتب .. ونصرخ في الميادين المتظاهرة كي تسقط الأقنعة، وتبقى غزّة آخر تعريف للكرامة.
#الإنسانية_تُختبر_في_غزة #غزة_مرآة_العالم# حين_تسقط_الأقنعة#كرامة_الإنسان #ميزان_العدالة #غزة_تقاوم #غزة_الكرامة #فلسطين_الحرية #صوت_غزة #غزة_ليست_وحدها #الإنسان_ضد_الزيف #غزة_آخر_تعريف_للكرامة #سقوط_الحضارة_الكاذبة #الحق_أبقى #معنى_الإنسان