لم تكن اسرائيل بحاجة الى سبب لتقتل وتجرح ما يقارب من المائة الف من الفلسطينيين وتدمر ٦٠ من المائة من الابنية السكنية والبنى التحتية والمستشفيات والمدارس والطرق ، بل كانت صولة السابع من تشرين الاول اكتوبر سوى شرارة البداية لاستمرار فصل جديد من الصراع المرير الذي يمتد الى خمسة وسبعين عاماً واكثر .. فاسرائيل التي عبّرت عن ندمها مراراً من الانسحاب من قطاع غزة مرغمة في العام ٢٠٠٦ ، ماكانت في الواقع لتستمر انذاك في السيطرة على جيب مستطيل كعلبة سردين وهو قنبلة موقوتة او لغم ينفجر كلما داست عليه قدم .. وكانت اسرائيل تعتقد انها ستأمن جانب غزة مع حصار خانق تام وشامل عليها في البر والبحر والجو ، وهو اعتقاد ثبت خطله .. وحسابات ثبت فشلها لانها كانت على الورق ، ولا تمت للواقع بصلة .
اغلب الاخبار تشير الى ان النتن ياهو كان قد تلقى معلومات او اشارات او حتى تقارير استخبارية تفيد بنية الفلسطينيين بعمل شيء ما لتحريك المياه الراكدة ، بل ان اعلاماً عبرياً ذكر ان مصر كانت قد حذرت الدولة العبرية من هجوم من غزة قبل ثلاثة ايام من وقوعه ، وللامانة المهنية فان مصر نفت ذلك مراراً وبشدة .. الثابت ان النتن ياهو تلقى المعلومات وتعمد تجاهلها علّ وقوع الهجوم ( وذاك تفكير صهيوني اصيل بامتياز ) يسهم في تخفيف الضغط عليه وايقاف المطالبات باستقالته وتعطيل الاجراءات القضائية بالاحتيال والفساد ضده وهو ما تحقق فعلاً .. ولكن مالم يكن بحسبان النتن ولا اجهزة مخابراته واستخباراته ولا حتى قيادات جيشه هو هذا العدد الكبير من الرهائن الذين وقعوا بيد الفلسطينيين ، والطريقة البدائية التي أُسروا فيها .. بل وتحطيم فكرة الجيش الذي لا يقهر والعيون المفتوحة على الجميع.. وذلك يعطينا مثلاً بارزاً ان الحقوق المهضومة والناس المسحوقة تبتكر تحت الضغط انماطاً من الردود تقع خارج حدود الواقع والمنطق والعقل .. وهذا هو سبب الصدمة الشديدة التي تلقتها إسرائيل وامريكا والغرب ومن يقع تحت سيطرتهم ، وحقيقة الامر ان هولاء كطرف واحد عبروا في هذه الازمة عن وحدة وتعاضد قل نظيره ولكنه ليس مفاجئاً لاحد .. بل انه كان يبحث عن فرصة.. وقد جاءت هذه المرة في السابع من تشرين الاول أكتوبر.. ذلك ان التنفيذ العملي للسيطرة علىالعالم من قبل الثلاثي المعروف : الماسونية ، والصهيونية العالمية ، وول ستريت وذراعيه : البنك الدولي وصندوق النقدالدولي وعبر حكومة العالم السرية على العالم .. هذه السيطرة تحتاج الى افعال كبيرة لتظهر للعلن .. ولذلك سارع مسؤولون كبار من هذه الدول ليس فقط للتنديد بما حصل من قبل الفلسطينيين ، والتعبير عن دعم إسرائيل فحسب بل كانت الاوامر : ان اذهبوا بانفسكم الى القدس وتل ابيب لتقديم الدعم والطاعة علناً وقد فعلوا مهرولين ولذلك ذهب بايدن وماكرون وريتشي سوناك وشولتز وغيرهم الكثير وهم ينددون ويشجبون ويستنكرون و.. وو.. بل ان الولايات المتحدةالاميركية وفرنسا وبريطانيا ارسلت حاملات الطائرات والغواصات قبالة سواحل فلسطين وفتحت مخازن عتادها وسلاحها امام الجيش الاسرائيلي في استعراض مخيف للقوة ولتحذير الجميع ان : امن اسرائيل ووجودها خط احمر واصفر واسود ، وان العالم الغربي ( المتحضر ) مستعد لقلب المنطقة عاليها على سافلها اذا مُست الدولة العبرية و( ديمقراطيتها ) .. وليذهب جميع الاخرين الى الجحيم ..
وهنا لابد من ملاحظة ان التصرف الامريكي- الغربي .. لم يعر للعرب ( كالعادة) ولا للمسلمين وساستهم اي اهتمام .. ولم يكن يتوقع من هؤلاء غير الشجب والاستنكار والتنديد والادانة.. وعقد الموتمرات والتصريحات .. بل ان الاوامر كانت تصدر الى هؤلاء الساسة ان ابعدوا انوفكم عن غزة وما يجري فيها .. فهذا تسديد حساب ليس لكم دخل فيه .. وهو ماحصل .. بل ان امريكا والغرب تلقوا أشارات رسمية من ساسة وقادة عرب ومسلمين باننا لا نتدخل .. وافعلوا بالفلسطينيين ما شئتم .. وهذا الموقف صدر من كل حكام الخليج ( عدا الكويت ) وكذلك من المغرب .. مع بعض الجعجعة والمواقف وتحريك التظاهرات الخجولة والتعبانة في دول اخرى ..
المسالة الاخرى هي ان هذه الازمة اريد لها ان تظهر الفلسطينيين بانهم ضد التحضر والحداثة بمهاجمة حفل موسيقي وعالمي ، وديني : اي مهاجمة اسرائيل في ايام عيد الغفران ( يوم كيبور .. كما حصل في حرب تشرين الاول أكتوبر ١٩٧٣) وانه في الاخير محاولة لسحب الاهتمام من حرب اوكرانيا والتي بالفعل تراجعت الى اهتمامات ثانوية جداً في السياسة والاعلام العالمي .. واستفراد الدب الروسي في الجيش الاوكراني لان الغرب وامريكا والناتو بالضرورة لا يستطيع ان يحارب على اكثر من جبهة … اما ابرز ملاحظة فهي ان وزير الخارجية الاميركي أنطوني بلنكن قال في اول زيارة له الى إسرائيل بعد وقع الهجوم الفلسطيني هو : انني جئت اليكم بصفتي يهودياً .. وهي اشارة مرت مرور المستَغفلين على الاعلام النافذ في الفضاء العربي .. وتحديداً الخليجي والمصري .. رغم انها خلاصة الفكر الصهيوني العالمي الحديث والجاري تسويقه الان الذي يصور ان العرب ( الهمجيين ) يريدون ان يقضوا على الدولة العبرية المتحضرة والديمقراطية والوطن القومي والامن والموعود للابرياء اليهود المضطهدين !
في خطابه عام ٢٠٠٩ في جامعة القاهرة ، قال الرئيس الامريكي الاسبق براق حسين اوباما بكل وضوح وصدق : علىالعرب والمسلمين الا يتوقعوا ان يتخلى رئيس او مسؤول امريكي عن إسرائيل وامنها وتفوقها الامني والعسكري .. وعليكم ان تفكروا بطرق اخرى للعلاقة بين امريكا والعالمين العربي والاسلامي بعيداً عن قضية فلسطين .. وكان الرجل واضحاً بما فيه الكفاية وهو يلخص الوضع .. فلا الان ولا في المستقبل القريب يمكن ان يظهر رئيس او مسؤول امريكي محايد على الاقل .. ولذلك وبكل ثقة اقول ان : اكذوبة حل الدولتين الذي اطلقته الدعاية الغربية وتبنته امريكا وبعضالجهات الغربية والعربية الساذجة ، والمبادرة العربية التي اطلقها وسوّق لها ملك السعودية الاسبق عبد الله بن عبدالعزيز في القمة العربية – بيروت ٢٠٠٢ هما مجرد مخدر موضعي وقتي لا يقدم ولا يؤخر وان الجميع في العالم يعرف انهما مجرد كلام وحبر على ورق .. وان لا احد في اسرائيل ، لا صقور ولا حمائم ولا زرازير ولا حتى ذباب يؤمن بهذين الحلين .. لان الاساس الذي وضعه المؤتمر الصهيوني الاول ١٨٩٧ هو دولة قومية لليهود من النيل الى الفرات ، وقد جرى تحقيق ذلك بالقوة والقتل والتهجير والاحتلال وبمباركة ودعم واسناد وتبني امريكا والغرب حتى الان بنسبة ٨٠٪ .. ولهذا السبب نجد ان اسرائيل هي الكيان السياسي الوحيد في العالم الذي ليس له دستور ، وليس لها حدود معروفة ومعرّفة ومعتمدة دولياً وهما من اساسيات اي دولة عضو في الامم المتحدة.. وان اسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تتصرف فوق القانون وترفض القرارات الدولية على ضعفها ، وذلك بما امتلكت من ادوات الضغط واللوبيات التي نلخصها بـ ( المال والاقتصاد اولاً والاعلام ثانياً ) .. وان هذه الاسباب هي التي دفعت الفلسطينيين وهم محبطون يائسون الى اطلاق هذه القنبلة الفراغية الهائلة والتي احدثت فعل الزلازل في كل العالم .
وصدق الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش .. الرجل القلقان دائماً ،والذي لا يقدم ولا يؤخر ، فلاول مرة يصحو الرجل ويقول كلمة حق ،وهو ما اثار غضب اسرائيل وطالبت باستقالته فوراً عندما قال : ان احداث السابع من اكتوبر لم تات من فراغ !