18 ديسمبر، 2024 7:19 م

كنتُ أشاهد فيلماً هوليودياً أميركياً اسمه “فجر الإنقاذ” Rescue Dawn. الفيلم من إنتاج 2006، وكنتُ قد شاهدته من قبل. لكنه استدعى ما نعرفه عن الدعاية السينمائية التي تعرض بها القوة الإمبريالية الأميركية نفسها. في بعض الأفلام، نشاهد البطل الأميركي الخارق “رامبو” الذي يبيد جيوشاً وحده من “المتوحشين” في كمبوديا أو فيتنام. وفي أفلام أخرى، يقع الجنود الأميركيون في الأسر، فيعانون من “قسوة وهمجية” آسريهم، ويكشفون عن عبقرية في الصمود والبقاء وخداع العدو “الساذج” والهرب منه.
فيلم “فجر الإنقاذ” من هذا النوع الثاني. وفيه تسقط طائرة حربية أميركية في الغابات أثناء قصف لاوس، ويؤسر طيارها الرائد ديتر دنجلير. وفي الأسر، يختبر هو ورفاقه أسوأ أنواع العذاب، فيتعرضون للتجويع حتى يصبحوا جلداً على عظم. وفي النهاية يضع دنجلير خطة هرب له ولبقية الأسرى من المعتقل النائي فوق الجبال في الغابات. وأثناء الهرب، يواجه هو والأسير الآخر الذي يرافقه كل أنواع المصائب. وفي أحد المشاهد، يقوم كمبوديون قرويون بقتل رفيقه بالسواطير. لكن دينجلر يتمكن من الهرب ويأكل أفعى وهي حية من شدة الجوع، حتى تكتشفه طائرة عمودية أميركية وتعيده أخيراً إلى حاملة الطائرات التي أقلع منها، حيث يتلقى استقبال الأساطير.
أثناء المشاهدة، يكاد المرء يبكي عطفاً على الأسير ورفاقه المساكين. ويكاد يؤوي كراهية للكمبوديين الذين يبدون خالين من الشفقة. لكن هذه المشاعر تتجاهل الأسئلة الأساسية: ما الذي تسبب في هذا كله؟ هل ذهب الكمبوديون الفقراء إلى بيت الرائد دينجلر في أميركا واختطفوه، أم هو الذي هبط عليهم من آخر الدنيا محملاً بالقنابل ونية القتل؟ وهل جاءت قسوة المقاومين الكمبوديين من طبع غير بشري، أم أنهم وُضعوا قسراً أمام أسوأ خيار وجودي على الإطلاق: إما أن تقتُل أو تُقتَل؟
هذه الأسئلة تعنينا، لأن تجاربنا مع الغزو لا تختلف عن الكمبوديين والفيتناميين. وسواء كان ذلك في العراق أو فلسطين، هناك دائماً روايتان متصارعتان، رواية الغازي ورواية المقاوِم. وفي صراع الروايات الخاص بفلسطين، تعرض وسائل الإعلام الغربية، مثل السينما الهوليودية، بقايا صاروخ بدائي أطلقته “حماس” على شارع فارغ، كدليل مادي على “العدوانية”. وقد تعرض بعض المستوطنين الخائفين، لكنها لا يمكن أن تعرض الدمار الهائل ومعاناة المدنيين في غزة أمام آلة الاحتلال الوحشية. ثم يصرح المسؤولون الأميركيون وغيرهم بأن “الإسرائيليين” مساكين يدافعون عن أنفسهم، بينما الفلسطينيون قُساة و”إرهابيون”! لكن الأسئلة المهمة لا تُطرح: لماذا لا يُذكر “الإسرائيليون” بحقيقتهم، كغزاة ومحتلين؟ وإذا كان الفلسطينيون يخوضون حرباً، فلماذا؟ هل خرجوا من حدود وطنهم لاصطياد اليهود في أوطانهم في بولندا وبريطانيا وأثيوبيا وروسيا، أم أن هؤلاء الأخيرين هم الذين جاؤوا، بنية وحيدة، هي شطب الفلسطينيين تاريخياً ووجودياً؟
من الواضح أن آلة الدعاية الصهيونية تنجح إلى حد كبير في نشر صورة “الإسرائيلي” الضحية والمستهدف. وتُعرض حتى صور جنود الاحتلال المدججين والمستوطنين المسلحين كتجليات لبطولة شعب مسكين بلا خيار سوى القتال. وفي المقابل، يساهم في إضعاف رواية المقاومة الفلسطينية تجنب طرح الأسئلة الأساسية حول الجاني والضحية، وأسباب “العنف” في المقام الأول. كما يساعد أيضاً عرض صورة الفلسطيني في الدعاية الفئوية في صورة الجندي الشرس الملثم، في زي عسكري مخيف، المحاط بأحزمة الرصاص والمدجج بالأسلحة والقاذفات. ومع أن البعض يبررون هذا العرض ببث الرعب في قلوب الأعداء، فإنه ينشر انطباعاً مغلوطاً عن وجود فلسطيني “رامبو” عدواني، غير موجود في الحقيقة.
من المهم أن لا ننخدع نحن بأي عروض هوليودية ماكرة لأي شعوب تدافع عن نفسها في أوطانها ضد أي غزاة. الغازي لا يمكن أن يكون مسكيناً –إلا بقدر ما هو ضحية لتبريرات عدوانه على الآخرين واعتباره قضية وطنية جليلة. والمقاوِم لا يمكن أن يكون وحشياً وهمجياً حين يرد بالمثل على عدو جاء إلى بيته ليقتله، لا أقل. وليس من الوفاء لأي مبدأ الإشفاق على “ديتر دينجلير”، الأسير أو المطارَد في كمبوديا، ونسيان المشهد الأول، عندما قاد طائرته المحملة بالقنابل ليمطر الكمبوديين بالموت من فوق، منتشياً بتفوقه ومستمتعاً بالقتل مثل الذاهب في رحلة صيد. لكن البعض ينسون المشهد الأول، في كمبوديا أو فلسطين، ويلومون الضحايا!
نقلا عن الغد