22 ديسمبر، 2024 11:43 م

غريبتان على ضفاف دجلة

غريبتان على ضفاف دجلة

تنطلق السيارة الصغيرة مخترقة حي الجامعةالأنيق متجهة يميناً إلى شارع الربيع، الشارع الطويل الذي لا تُعرف له بداية ولا نهاية، المكتظ بالسيارت وبالعابرين على الأرصفة والمنطلقين عند الإشارات نحو اتجاهي الطريق، فالمصالح كثيرة والمحلات متنوعة والمطاعم والمقاهي، وكأن الحرب لا تعرف هذه المنطقة ولم تمر عليها في أيام العراق الملتهبة. يُقال إن مجاورتها لحي الكاظمية* منحتها حماية غير معلنة لكنها محسوسة وتُميز السُكْنى فيها فهي مظلة من لا ظل له.

‎تعبر العربة الزرقاء كوبري الشرطة وتمر يساراً فوق دجلة المَهيب عابرةً الجسر الفاصل بين الرصافة والكرخ ثم إلى شارع السعدون ثم ساحة الفردوس حيث أكبر هوتيلات بغداد وأفخمها .وفي بعض الأحيان تأخذ السيارة بركابها طريق حي الكرادة* فتتذكر السيدة الجالسة في المقدمة ما جرى فيه قبل أيام وتحاول أن تنسى غير أن الصور تتدافع فتبعدها بيدها واحدة تلو الأخرى حتى إنَّ الزوج انتبه إلى حركة يدها ولم يعلق ولم يفاجئه ما رأى ففي الأيام الأخيرة بدأت هذه العوارض لديها وهو يعرف أسبابها، فالصامتون تنطق أجسادهم بلا ترتيب مسبق وبلا إرادة منهم وقد يفقدون السيطرة عليها إذا تطور الأمر .

‎في الأسبوع الماضي كانت السيدة مع صديقتها تزور المنطقة التي ضربها صاروخٌ باليستي وودمّر محلات وأرزاقاً لكنَّ أرواح من غابوا هي الخسارة الأغلى والأكبر، هي لا تعرف أسماءهم ولا وجوههم لكنها استشعرت حزناً كبيراً وكأنهم من أهلها.

‎أغلب مناطق بغداد صارت غير آمنة بالمرة فمنذ أسبوع سقط صاروخٌ على مدرسة أطفال* وفقد العراق طفولةً ندية ووروداً كانت ستتفتح وتُزهِر وتملأ الدنياربيعاً وجمالاً .غير أن الحياة تمضي ولن تتوقف عند حزنها ولا آلامها فهاهي الكرادة تستعيد بريقها وبسرعة قياسية. وهاهم رفاق الطريق يجبرونها ووالدهم على الخروج والفسحة ففي الدنيا متسع لكل شيء وفيها تتجاور الحياة والموت ، فلا مجال للشرح فقلوبهم الطرية لا تعرف إلا الفرح فلندَعْ هذه القلوب وشأنها.

‎تتوقف السيارة أمام المبنى الجميل
‎غير التقليدي حيثُ تبدو عليه عراقة وفخامة قديمة إنجليزية الطراز
‎يتمعّن الحارس في بطاقة الوالد ويُمازح الصغيرة المناكفة التي تُبدي الإنزعاج لتوَقف السيارة وهي المستعجلة للقاء صديقاتها فلاداعي لهذا الإجراء كما تُصر والذي تحتجُّ عليه في كل مرة فتُضحِك الحارس ويقبل اعتراضها بمحبة ظاهرة..

‎يركن الوالد العربة وينزل الركاب السعداء بقرب لقاء أعزّائهم، الإبنة الكبرى لها صديقات بانتظارها وكذلك شقيقها ورقم ثلاثة التي لا تطيق صبراً لتنزل وتجري حيث أحواض السباحة ،أما الصغير البغدادي المولد فله وجهة نظر أخرى، إتّجَاهه معروف وكثيراً ما حيَّر أهله بما يفعل.

هذا الولد الذي لم يتم شهوره الخمسة عشر
تكلّم ومشى في فترة قياسية وأذهل من حوله.
‎وهاهو يصبح عضواً مرموقاً بالنادي الشهير ويختار صديقاته من سيدات النادي شديدات الأناقة والوجاهة والجمال ! ويعرِّف أسرته بهن. كل من جرى إليها وجلس في حضنها تصبح صديقة بفرض الأمر الواقع، إلّا هي كانت تأخذ كرسيها المعروف الذي يكاد يسمى باسمها وتجلس بكامل أناقتها الملكية، تمسك بيدها كتابها وتراقب من خلف نظارتها الشمسية الرائحين والغادين وتسرح بعيداً ، وكأنها من غير هذه الدنيا ،وكأنها هبطت من عصرٍ ما، كانت فيه إحدى أميراته فوجدت نفسها في عصر لا تعرفه ويبدو أنها لا تحبه ولا تتماهى معه.
‎كل زيارة لهذا المكان يعدو الصبي الأشقر نحو السيدة المتعالية ويقف بجانبها مبتسماً فتدير وجهها عنه، لكنَّه لا يتراجع

‎وهكذا جرت المقادير كما تجري في قصص المحبين وكان اليوم الموعود وتنهار السيدة أمام تيار المحبة الجارف الذي لا يبقي ولا يذر فتأخذ الطفل في حضنها وتجلسه وتسأله عن أمه فيشير إليها، إلى السيدة -التي تنزعج دائماً من أفعاله وتنهره سراً لكنه لا يتوقف أبداً- فتدعوها للجلوس بجوارها وسط ذهول أعضاء النادي العريق.

‎غريبة عن البلاد تجالس غريبة عن عصرها لا تعرف إحداهما شيئاً عن زمان هذه ولا زمان تلك.
‎تبادر الغريبتان الواحدة منهما الأخرى بالسؤال..من أنت؟ فتجيب العراقية: كنت في عصر مختلف وما زلتُ فيه ومازلتُ أحبه ولا أعرف غيره. حين قرر أصدقاء البلاط والأسر البغدادية الموالية الخروج كنت قد تأخرت فبقيت.
‎وتقول الغريبة عن المكان كنت من بنات عصري ولم أهرب منه لكنه تجاوزني حين خرجت وتركت بلادي. فتقول العراقية ما عرفتُ العودة ويبدو أني لا أريدها فعَلِقت!
‎وتقول الغريبة لم أعْلَق بل انسحبتُ خوفاً من قَدَرٍ يلاحقني لكنني الآن أفتقده سيدتي الجميلة، فتقول العراقية لا أفتقد أحداً ولم يعد لدي ما أفتقد .

‎إنني إبنة زمان غادَرَ وتركني فبقيتُ عالقةً لا أنا به ولا بغيره إنني ساكنةٌ والزمان متحرك إنه يجري من حولي كهذا النهر في جريانه الأبدي، إنني قابضةٌ على ذاكرة تتسرب مني كل يوم.
‎أين ما كنت أعيشه بين ساكنات ذلك البلاط الطيب، ألعب مع صديقات صباي وأشاهد السينما معهن صحبة الملك!، وفي بعض الليالي كنت أنام معهن هناك ونصبح معاً ونقضي نهاراً بكامله نتابع المراكب على نهر دجلة تتهادى بحمولتها من البشر العابرين بين ضفتيه، ونتناول البوظة الشامية من الباعة على ضفافه.
‎كنت طفلةً جميلة واسعة الخيال ولا أدري هل ما أقوله الآن هو إحدى بناتُ خيالي أو إنه جرى وعشته بالفعل!

‎تخاطبها الغريبة بمحبةٍ وشفقة ظاهرة مازلتِ طفلة ومازلت جميلة وأنيقة وبهية. فتنتبه السيدة وكأنها عادت للتو من زمانها وتبتسم-مطمئنةً وممتنَّةً-للسيدةالتي تجامل ربما وربما تقول الحقيقة.

‎يلعب الصبي بفرحٍ وقد غمره شعور بالنصر
‎لقد جمع بين الغريبتين؛ غريبة عن زمانها
‎وغريبة عن مكانها في نهارٍ صار ربيعياً
‎رغم صيف بغداد القائظ.
‎محبوبة خليفة

*‎كانت منطقة الكاظمية المقدَّسة لدى الشيعة محميةً بحكم الأمر الواقع فلم يسقط عليها صاروخ واحد طوال فترة الحرب
‎*الكرادة منطقة جميلة مشهورة بتنوع سكانها وقد تعرضت لهجمة صاروخية في أثناء الحرب
‎مدرسة بلاط الشهداء في بغداد نالها نصيب* من اسمها وفُقدت فيها أرواح صغيرة أثناء الحرب .