18 ديسمبر، 2024 9:06 م

ألقته سيارة مظللة في ميدان لاه مكتظ ثم غربت حيث المجهول، لم يلحظوه إلا حين صم آذانهم منبه سيارة أخرى متحاشية دهسه، سارع البعض بالسباب على صاحب السيارة ظنا أنه صدمه، هموا برفع ذلك الجسد الذي لا زال مضرجا بالدماء.. إنسل صاحب السيارة خوفا كالنمل المتسارع بآلية يومية، أحاط به البعض يسأله هل أصابته بليغة؟ وآخر يقول: أطلبوا الإسعاف كي تحمله الى المستشفى، غطى وجهه بكفيه اللاتي فقدت أحداها أغلب أصابعه والعشرة أظافر.. شعر الجميع أن حاله ليس كشخص صدمته سيارة، ابتعد أغلبهم إلا ذلك الأعرج الذي تعرف عليه وجره صوبه حتى أجلسه تحت بيت درج مدخل العمارة… لم يحدثه بل قام بتغطيته ثم عاد حيث عمله كحارس يستوجب الجلوس على كرسي تمغط كسلا كلما أسند ظهره عليه، محدثا صوت ريح يخرجه بعد ان تنتفخ بطنه بالهواء، كما هي بطون المراحيض التي ينظفها ومن يستخدمها، أعتادته الناس مدخنا شرها لا تكف اصابعه عن الإمساك بخاصره سيجارة، تلك التي ملت حياتها والعيش في فم غابت عنه الأضراس والأسنان، فبات كهفا مظلما كالقبر ما أن يَدخله الدخان حتى يشعر برطوبة ورائحة الموت التي تقطن على ذلك اللسان المخضر… لا يتحدث إلا نادرا، فقد عابه لسانه المقطوع طرفه نتيجة البوح برأيه هكذا يشيع لمن يسأله، كُسِرت ساقه كونه تمنى المضي نحو ما لم يكن يحلم به بعد خروجه من دار العدل والميزان الأعوج حيث غرف الناي..
مضى النهار متسارعا، الشمس تحرق من تمسه بلهيبها، اختفت المركبات إلا من لزمها السير بإطارات مترهلة فباتت تحدث صراخا تثيره بدخانها مشيرة أنها قد سُلِخت من زحمة سير.. المارة كل أنزوى لملاذ، إلا القليل ممن ساقتهم الحاجة يُسلَقون في بطن عرباتهم يغطون وجهوههم بعض الجرائد القديمة وهم يريحون جسد متهالك من دفعها بعد أن كلت نفسها..
لا يعلم كيف؟ فأغلبهم يتساءل؟ كم نهار هذا اليوم طويل؟ فالشمس لا تريد ان تغيب، إلا بعد فَضحِ جبروت أحد وجوه أعتاد أن يشاهدها هو والعامة في التلفاز، او سماعها وصفير يسبقها، كأن العالم سيتجدد بحركتهم.. غير أن احلام الفقراء تبخرت من حرارتها فسترت من تظلله سيارة بطنها باردة، وأذابت من كشف وجهه رغم تغطيته، أنصرفت كعادتها تجر أذيال خيبة أملها في صحوة من تقبعوا بخيانة الذل والهوان ستارا ورقيا يطير بما كتب عليه من عبارات ملتها الآذان رغم أنها تردد في كل آذان… وبعد عسر ولادة جاء الطلق فغابت الشمس، حمل بيديه ما يمكنه بل ما أعتاد ان يتناوله في كل ليلة وجبة كي يسد حاجة بطنه التي تقرقر ضجرا من تكرار نفس الطعام الذي باتت لا تستسيغه، حتى أحماض بطنه ترملت بعد ان فقدت حظوة تغيير طَعم، جلس وقد أزاح الغطاء عن ذلك الجسد المتهالك وهو يقول له:
هيا أنهض لقد بتنا وحدنا، هيا قص علي… ماذا حدث بعد خروجي من المحكمة؟ وأين سجنت؟
الآخر بالكاد انحرف بأضلعه التي تطقطق مع بقية عظام كأنها تجيب همسا:
أرفق بي يا حقير فما عدت أتمكن من الحركة
مد يده كي يساعده، لكنه صرخ من شدة الألم مما جعل الأعرج يضحك… استغرب منه!! فقال له:
لعنك الله اتضحك مني وأنا كما ترى حالي؟
الأعرج: لا أبدا يا عدنان لكني تساءلت عن كمية الضرب التي أُكلتها حتى تَنَمَلَ جسدك وخَدِر، بالتأكيد بعدها لم تشعر بقسوة وألم الضرب، فتكف عن الصراخ كما حصل معي… عندها تخرس الأصوات، يكفون عنك حتى تستعيد وعيك، ثم يعيدون عليك حكاية ماذا تعرف؟ ومن أشار عليك بأن تقول وتشهد بذلك؟ أظنك مررت بنفس السمفونية، ضحكت لأني فقط حاولت أن أساعدك كي تجلس فصرخت متأوهً، ترى كيف كان صراخك وتأوهك هناك في ثقوب الناي؟ عند الذين جعلوك تعزف أنينك من خلال ثقوبه المظلمة بعد أن أنهكها العتم وقطن فيها الوجع لتخرجه آناتك صراخا كلحن الظلم الذي دندنته قبلك في سنين خلت… صدقني كنت أحاول ان أتقصى أخبارك، لكن في كل مرة أحاول يأتيني من يحذرني، يُذَكرني كسر ساقي وقطع لساني، أخاف ذلك المشهد، فأخرس لأيام عديدة ثم أعيد الكَرَة، لا أتحدث حتى مع نفسي في سؤالها عنك، هيا حاول أن تجلس، أسند ظهرك على الحائط هيا قص عليّ كل شيء، لا تترك أي ركن من الظلمة الذي تحسستها وتلطخت بدمك إلا وقصصت لي ماذا قلت لها؟
عدنان: لاشك أنك مخبول يا راضي!!؟ أنظر حالي… هل تراني أستطيع الجلوس؟ أنظر مقعدي؟ أنظر ظهري ثم نزع عنه ما يستره، كانت صورة بشعة لآثار المقارع التي حفرت ظهره، أرأيت؟ هي إرهاصات ما كنا نؤمن به، أو هكذا ظننت، إنها إنعكاس حرية التعبير والفكر، كثيرا ما كنت ما تقول:
سيأتي يوم تغير الأقدار من معالم الحياة، لكنك لم تقل أبدا أنها ستغير معالم وجهي وظهري وحياتي البسيطة التي كنت أعيش، كم مرة لعنتك في صراخي وفي صمت، حينما يدخلوني في كل يوم حفرة جديدة، ثم يجتمعون علي وذلك الجلاد النتن حين يركبني بعد ان يقول له سيده… أهتك رجولته، حطم كبريائه ثم أخصيه كي يكون بلا حلم، بلا أمل… الأمل ترى هل لا زلت تحلم بأن هناك أمل في تغيير نمط حياتك؟ ام أن التغيير قد بدأ بساقك ولسانك، وعندما شعرت بما كلفك أنزويت كالكلب حارسا عند بوابة خربة الى جانب ابواب طموحاتك هذه ملتفتا وهو يكمل… المراحيض التي تتقاضى أجرة عمن يتغوط عليك حيث الرائحة تزكم الأنف بل تتقاضى أجرة خيانتك، كأن القدر قد نزعك وإياي عن قدميه بعد أن دار بنا في غيابات سجون كجواريب نتنة، مسح ممراتها حيث الدماء والقيء الذي يملئها، ماذا تريدني أن أقص لك؟ عدد مرات الإغتصاب، أم كم قنينة مكسورة الرأس ادخلت في شرجي؟ أم كم مرة تلذذوا بقطع أصابعي بعدما خلعوا الأظافر عنها؟ عن.. عن أسلاك الكهرباء وربطها بخصيتي وقضيبي، ام عن أسناني وسقف فمي الذي اجبروني ان اقضم بقايا قناني الزجاج التي اجلسوني عليها بكسرها ومضغها وهي مليئة بالدم والقاذورات؟ ماذا تريد مني ان اقول لك؟ فأنت تعلم جيدا ان عماد هو من وشي بنا، مالك والحب؟ كنت تحمل مباديء وقضية، غير أنك ما ان رأيت أخته حتى اصبت بالجنون والولع لعشقها، احببتها واحبتك هكذا تخيلتها فَعَلَت، لكنك لم تحسب أن عماد شخص رغم رفضنا لشخصيته العنيفة ثريا محميا متنفذ في السلطة بل هو السلطة، لكنك آليته أن يكون معك لا حبا في رأيه كونه لا يعير قيمة لأي مبدأ أو قضية، مترف لا يبالي بأي إهتمام بقضايا الإنسانية شخص يعيش على ملذات الحياة والترف.. قربته كي تستطيع تعطي نفسك العذر لترى أخته التي كانت تستخدمك للسخرية بعد أن صورت لك أنها تحبك كي تكسب الرهان من أخيها عماد… أتذكر حين لطمته بعد ان طردك من أمام منزلهم قائلا لك صراحة: ما أنت سوى نكرة منذ أن عرفتك زميل دراسة عولت استخدامك لذكائك ودناءة نفسك فقط، لا أحد يعرفك غيري فطينة واجهتك تغوطت عليها الكلاب، بمعنى كنت أستغلك رغم انك كنت تظن العكس، وسيلة لتمرير غايتك، وما تمثيل حب أخته لك سوى رهان.. أرأيت مدى الإنحلال والسقوط الأخلاقي لهذا الحيوان، قلتها لك لكنك لم تستمع، لحقت بأخته، حاولت مرارا ان تمسك بيدها تشرح لها حبك بإنه حقيقي، تذللت لها طويلا ونسيت ما كنت تؤمن به من افكار وقيم.. إنسلخت حتى رد لطمته عليك بشكل مدوي من شدتها جرنا معك في تلك التهمة عن تشكيل خلية تعادي السلطة وتدعو الى قيام ثورة، هكذا كانت بداية نهاية الحرية للأسف، كنت الضحية معك كوني المقرب إليك اما كمال و وسام وأياد لم يطلهم من الحب جانب، أما إذا أردت ان أقص عليك بماذا أعترفت؟ إسمع يا أعرج لقد أعترفت بكل الذي ارادوه حقيقة كان أم رياء، فعلته أو لم أكن أعلم به، معك وبتوجيه منك، ساهمنا معا في ضرب لا أعلم أي شيء، في مكان لا أسم له… خططنا دبرنا ذاك ما أعترفت به، أما ماذا سرقوا مني؟ لقد سرقوا أحلامي، عمري، أهلي و وطني نتيجة قول الحقيقة، فمثلنا يا أعرج ليس لهم حياة او أحلام وطموحات، مثلنا يجب أن يكونوا أدوات تستدعى كي تصفق، تهلل، تباع وتشرى بترهات سمجة كنا نسمعها معا، أتذكر خطيب المنبر وهو يطالب بالحق والحق عبد مقيد عند باب أي مسئول يُصفَع في كل يوم على قفاه حين الدخول وحين الخروج، لقد كان يستخدمنا وسيلة لكسب عيشه، فالتأريخ الذي يرويه مشوه معوق كما أنت وأنا الآن، مقطوع اللسان أعرج او مضرج بالدماء مضروب بالمقارع مخصي تلك هي الحقيقة، التي يزوقها لك حين يُعَرِج على الماضي حيث التضحية عظيمة ثمنها باهض، أما اليوم فالتضحية ليست باهضة فمثلنا الكثير، ومثلهم القليل، إنهم يا أعرج المدلسين الجدد بوجوه ورعة، أما أركان غرف الناي فلا زالت تفوح براحة الدم والبراز والبول، أما ظلمتها فزادت عتمة، ولا زالت آنات من قبعوا فيها رغم صياحهم خرساء… ذاك هو ما تشتاق معرفته وسماعه، ام تريد معرفة سبب خروجي بعد ان ألقيت التهمة علي بإعترافك بأني المحرض وأني صاحب الامتياز في التغرير بكم للقيام بثورة ضد السلطة؟ لم أكن أعلم لولا أني رأيت اعترافك وتوقيعك عليه.. لا اقول عنوة الدليل أنهم اخرجوك بعد عام واحد، أما أنا فقد قبعت سنين سوداء كوجهك الحقير هذا، اخرجوني بعد أن عقدوا اتفاقا معي، لقد ملوا من تقريعك، فأنت حتى اللحظة تكذب علي، تقول كنت تسأل عني لكنك كنت تذهب الى من احببتها، تلك التي ملت رؤية وجهك الكئيب ونتانة رائحة المراحيض التي تفوح منك، فاخبرت أخاها ذاك الذي رد اللطمة عليك بعقده إتفاقا، لكن هذه المرة معي لأنك لا زلت تحاول ان تتمسح بالغائط الذي يعلق بحذاء اخته، لم تتركها رغم ما جرى لك، بعد ان دفعت والدتك ثمن خروجك تقبيل حذاءه فعقدوا معك تلك الصفقة الحقيرة كي أكون أنا الضحية… يا أعرج النتن والدتك ماتت بسببك، خجلت منك بعد أن كنت لها الظل الذي يحميها من شمس العوز الحارقة، غير أنك فضلت نفسك عليها وتلك حكاية أنت أدرى بها.. أما السبب الذي اخرجوني فيه هو هذا..
لم يرى نفسه الأعرج إلا ونصل حاد قد خرق عنقه مُكِباً إياه مضرج بدمه تحت الدرج الذي أعتاده مرتعا لخيانته.