18 ديسمبر، 2024 9:43 م

غربة العراقيّين… الدور المفقود والتجاهل الرسميّ!

غربة العراقيّين… الدور المفقود والتجاهل الرسميّ!

تختلف البواعث الحقيقية للغربة (الهجرة) عن الأوطان التي رافقت الإنسان منذ القدم، وهي مرحلة إنسانيّة قاسية تختلف دوافعها بحسب الظروف المجتمعيّة والحياتيّة، ومنها الدوافع السياسيّة والدينيّة والفكريّة والمعاشيّة وغيرها.
والغربة لا تكون، غالبا، في الظروف الطبيعيّة ولهذا يَضطرّ بعض الناس في أزمنة الخراب السياسيّ والأمنيّ والثقافيّ والمعاشيّ للهروب من بلدانهم نحو المجهول، وبالمحصّلة يَجِد الإنسان نفسه وسط بيئة غريبة تختلف بعاداتها وتقاليدها ولغاتها عن بيئته السابقة، ومع ذلك يَتوجّب عليه، وهو المُضطرّ، أن يتأقلم مع حياته الجديدة شاء أم أبى!
وتتنوّع مُوجبات غربة العراقيّين التي بدأت بعد غزو الكويت والحصار الدوليّ (1990)، ولكنّ هجرتهم الأكبر كانت بعد الاحتلال الأمريكيّ في العام 2003، ومن أبرز أسبابها فوضى الحكم والقتل العشوائيّ والمنظّم والتهجير والاتّهامات الكيديّة!
وتنقسم هجرة العراقيّين إلى نوعين، النوع الأوّل، الأكثر: هجرة لا إرادية وإجباريّة، وكانت بشكل واضح إلى الأردن وسوريا وتركيا ومنها لجميع قارّات العالم، وقد توزّع العراقيّون بأكثر من (80) دولة!
والنوع الثاني، الأقلّ: وهي الهجرة الإرادية أو الاختياريّة، وكانت غالبا لدول الجوار أيضا، ومنها لأوروبا وغيرها، وهذا النوع من الهجرة يُفضّله الشباب الباحثين عن فرص جديدة، وكذلك بعض المتقاعديّن الذين فضّلوا الاستقرار في تركيا لأسباب معاشيّة تتعلّق بتوفّر الخدمات!
وبالعودة إلى الهجرة الاضطراريّة نَجِد أنّ غالبيّة المُهجّرين لُفّقت ضدّهم تُهَم كيديّة، أو سبق أن سجنوا أو صدرت بحقّهم مذكّرات اعتقال وغيرها من الأساليب الجائرة التي دفعتهم للتضحية بالغالي والنفيس للهجرة والنجاة من الذلّ والموت المحقّق!
والملاحظ أنّ المُغتربين العراقيّين يتفاوتون من حيث درجات الوَلَه والاشتياق للوطن، وهنالك نسبة معيّنة، وأنا منهم، مُصابون بما يُسمّى: (Homesick)، مرض حبّ الوطن، وهذا من أشدّ الأمراض الفتّاكة التي تأكل فكر الإنسان وجسده وترهق أوقاته، وهذا المرض ليس عيبا بل هو دليل قوّي وقاطع على رقّة القلب وصفاء الانتماء للوطن حتّى في أشدّ الظروف والأحوال!
وهنالك نسبة، ليست قليلة، من المغتربين كفروا بالوطن، أو زهدوا به، ومَنْ أراد منهم أن يُظهر معارضته للحكومة يُعلن أنّه لا يُريد العودة للعراق، وربّما، هنالك مَن يشتم الوطن، وكأنّ العراق مُلك للحكومات غير الصحّيّة الحاكمة، وقد يتصوّرونها حالة إيجابيّة ومعارضة (بطوليّة) ولكنّها في الحقيقة آفة ومعضلة تضرب الروح الوطنيّة بالصميم لأنّهم لا يُفرّقون بين الوطن الثابت والحكومات الزائلة، وبهذا فَهُم يُساهمون في تعميق الخراب عبر تجاهل الأدوار المطلوبة منهم (المغتربين) تجاه وطنهم، وضرورة سعيهم، وبالذات من غير المطلوبين أمنيّا وقانونيّا، لتأسيس مرحلة جديدة تقوم على أكتاف جميع أبناء الوطن، وعدم جعل الغربة هي الحلم أو الملاذ!
إنّ بقاء غير المطلوبين قانونيّا خارج العراق من العلماء والأساتذة والمهندسين والأطباء والمعلّمين والخطباء والفنّانين وغيرهم حالة غير صحّيّة، وهذا الأمر لا علاقة له بمعارضة الحكومة والعمليّة السياسيّة، وهنالك فرق بين الوقوف مع الحكومات غير المُعْتَرف بها وبين العمل من أجل الوطن والناس، والمساهمة في ترميم الخراب العامّ بجهود النخب الوطنيّة وكلّ من موقعه!
وأكاد أجزم أنّ الهاربين، أو الرافضين، أو الزاهدين بالوطن، بلا مُبرّرات قانونيّة أو منطقيّة يُساهمون في دوام الحالة المرضيّة العراقيّة، وهم مقصّرون بالواجب الوطنيّ والإنسانيّ الواقع عليهم!
وتُعاني الجاليات العراقيّة في دول الجوار من هشاشة التنظيم والتنسيق، وكذلك من التكتّلات الحزبيّة بين غالبيّة أفرادها، وكأنّنا أمام جاليات حزبيّة، كلّ جالية تابعة لطرف معارض، وهذا خلل كبير يُفترض العمل لتجاوزه والتسامي على الخلافات الفرعيّة طالما أنّ حُبّ العراق والسعي لتغيير الخراب فيه هو السقف الجامع لهذه الكيانات!
أما بخصوص الجانب الرسميّ العراقيّ فقد تجاهلت الحكومات المتعاقبة أوضاع المُغتربين والمُهجّرين وضيّقت على الكثيرين منهم بقطع رواتبهم وإقالتهم من وظائفهم بعد تهجيرهم، وبعدم إصدار جوازات سفر للكثير من المعارضين!
وحتّى اليوم لم نجد أيّ حكومة اهتمّت بإيجاد الحلول الشافية لمشاكل المغتربين الوظيفيّة والقانونيّة بما فيهم حكومة محمد شياع السوداني التي شُكّلت قبل ثمانية أيّام، وقالوا بأنّها (تختلف) عن سابقاتها!
ولا أدري كيف تتّفق هذه التصرفات التعسفيّة والدكتاتوريّة مع مفهوم الديمقراطيّة الذي يتغنّون به؟
وقد لاحظنا أنّ انتخابات تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021 البرلمانيّة، لم تشمل أيّ مواطن عراقيّ في أيّ دولة من دول المهجر وكأنّ هؤلاء ليسوا من العراقيّين، وهذا طعن قانونيّ يضاف للطعون السابقة في الانتخابات!
ومن التناقضات المذهلة أنّ دائرة القبول المركزيّ مستمرّة بقبول مئات الطلبة الوافدين للدراسة المجّانيّة في الجامعات العراقيّة، بينما يَصعب على غالبيّة المُهجّرين العراقيّين في دول الجوار إدخال أولادهم في الجامعات لأنّها بالعملة الصعبة!
فهل هي مؤامرة مدروسة لإذلال المهجّرين وعوائلهم؟
يُفترض بالغربة أن تكون الأرضيّة الخصبة لتجميع العراقيّين، ولتنسيق جهودهم ولتنظيم صفوفهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة سعيا لإنقاذ العراق!
نتطلّع لنهاية مأساة عموم العراقيّين وهموم المغتربين قريبا، وأن يكون اللقاء بأرض الوطن بعيدا عن هموم الواقع وآهات الغربة!
المغتربون ثروة وطنيّة عراقيّة فحافظوا عليها!
dr_jasemj67@