عادة لااميل الى سماع الاغاني العراقية (الحديثة) بايقاعاتها الصاخبة وكلماتها الشبيهة بحركة المرور في الباب الشرقي ساعة الظهيرة. لكن كلمات الاغنية التي كانت تنبعث من جهاز التسجيل لفتت انتباهي بما تتضمنه من لغة شعرية جميلة تصف حالة حب عميق وتتغزل في المعشوق الذي سرح خيالي بعيدا ليستجمع جماله ورقته ودلاله. كان سائق التاكسي الشاب يصاحب المطرب في ترديده همسا لكلمات الاغنية مما يوحي بانها من الاغاني المعروفة بين اوساط الشباب. كنت اود لو استطعت سؤاله عن اسم المطرب الشاب لعذوبة صوته، لكني تراجعت مع ارتفاع صوت الايقاع والتصفيق الذي رافق مقطع الاغنية الثاني ، فتلاشت شاعرية المطرب وهمسه ليتحول نداء العشق الى هيام جنوني لايختلف عن (معارك الحب) التي يخوضها مطربي هذه الايام. ومع ذلك، لم يمنعني صخب النغمات من الاصغاء الى كلمات الاغنية الجميلة. وقبل ان تتكون صورة الحبيب المعشوق في خيالي الخصب، نطق المطرب الهمام باسمه ليرفع اشارة حمراء تكبح جماح فرسان الخيال، انه (الامام المهدي ع).
اقشعر بدني وانا اصغي لصوت المطرب يناديه –يامهدي- صرخت فيه دون وعي: يااخي حرام عليكم. لم يفهم الشاب سبب ثورتي بل استهجنها وظن انها رد فعل طائفي. كنت اظن ان هذه الاغنية قد تكون الوحيدة او انها نابعة من تعصب بعض الشباب او فهمهم الخاطئ لطبيعة العلاقة بين الانسان ومقدساته، لكن هذا الحديث اثار سخرية زميلي الذي استغرب جهلي بالأمر ليخبرني بأن محال التسجيلات تغص باقراص من هذا النوع وعلى عدد اسماء الائمة، وفي المقابل تتفنن الطائفة الاخرى في الاغاني التي تتغزل بالنبي محمد (ص) وباسلوب لايقل طربا و (طربكة) عن اغاني قناة (ام سي بي)، ورجوت الله ان لايكون هؤلاء المطربون ومؤلفو الاغاني قد وصلوا الى (فاطمة الزهراء ع) في تسويقهم لمثل هذه الاقراص. وشاءت الصدف ان أتلقى دعوة لحضور مناسبة دينية اقامتها احدى الدوائر الحكومية، وبعد قراءة آية من الذكر الحكيم وبعض الكلمات لرجال الدين، صدحت انغام الاغاني المذكورة وامتلأ المسرح بالراقصين من الشباب الذين (ذبوا لحم) على ايقاع الطبل والزمر وصوت المطرب الذي يترنم ببيعة الغدير ويتغزل ب (الامام علي ع)!
بعد كل ماسمعت، الا يجوز ان نتساءل مايعني كل هذا؟ وهل يرضى الانبياء والاولياء وآل البيت ان يكونوا مادة للغزل والرقص؟ ام ان مايحدث هو تطبيق للمثل القائل (مشتهي ومستحي)، فبعد ان حرم الرقص والغناء من قبل جميع الطوائف والمذاهب بعد 2003، واصبح من العار ان تسمع صوت اغنية في سيارة او مكان عام، ليستعاض عنها بآيات القرآن او ال(الردات الحسينية) التي فرشت درب باسم الكربلائي وغيره بالملايين، بعد كل هذا تأتي موجة الاغاني الدينية الراقصة.. او بكلمة ادق (البازخة)، وصارت حفلات الاعراس (الدينية) كما يحلو للبعض تسميتها، مناسبات ل(الهز) بكل انواعه، وعلى اي انغام مهما كانت صاخبة، على ان تستبدل كلمة (حبيبي) باسم النبي (ص) او امام من آل البيت، فمن يمنع من؟ وماهو الحلال والحرام؟ الرقص ام الغناء ام التجارة بالمقدسات، وأين رجال الدين من هذه الممارسات؟
قبل سنة تقريبا اعلن مكتب السيد مقتدى الصدر منع اي اغنية او نشيد ديني ترافقه الات موسيقية وأمر بوجوب اتلاف الاقراص التي تضم هكذا اغاني مع اعلان المطربين التوبة، لكن ماحدث هو العكس، فقد كانت الاغاني الدينية دون موسيقى، والآن صار يرافقها (دي جي)، فاضاف لانواع الفن الغنائي نوعا (دينيا) جديدا تجاوز فيه العشق تصوف الحلاج في حبه الالهي!.