-1-
اذا كانت السياحة في البلدان ، هوايةً محببة لدى بعض الناس ، فانّ هوايتي السياحة في بُطون كتب التاريخ والسيرة والأدب ، وفيها الكثير من الغرائب والعجائب، التي تزيد الانسان بصيرةً بشؤون الحكم والمجتمع…
-2-
ومن النصوص الملفته للنظر ، ما أورده المسعودي في مروج الذهب/ج3 /244 .
حيث قال :
” ذّكِر انّ المنصور قال يوماً لجلسائِه ، بعد قتل محمد وابراهيم :
تالله ما رأيتُ رجلاً أنصح من الحجّاج لبني مروان “
نسي المنصور لفرط صرامته وقسوته وغلظته، أنهم ثاروا على بني أميّة، لأنهم سلّطوا (الحجاج) وأضرابه على رقاب الناس، يسومونهم سوء العذاب ، وانتهجوا سياسة البطش والتنكيل بأهل البيت (ع)، وبكل الأحرار والحرائر من طلاّب مدرستهم، الرافضة للظلم والطغيان، وحين ثُنِيَتْ له الوسادة ، وأمسك بزمام السلطة، طفق يمتدح الحجاج بن يوسف الثقفي ، الجزّار المعروف بسفكه للدماء واستهانته بكل الحرمات والمقدسات …
أما السبب الكامن وراء هذا الامتداح الرخيص فهو :
تحريض الناس أنْ يكونوا له ، كما كان الحجاج لبني مروان …
اي أنه يدعوهم الى أنْ يبيعوا دينهم بدنياه … غير مُبالين بالخطوط الحمراء التي يعرفونها ، ليسلم له سلطانُه ، ولينعم بدنياه ولو على حساب جماجم الأحرار ، وأشلاء الأبرار،
وهذا هو الاستبعاد بعينه …
وانّه المسخ الكامل للقيم والموازين الشرعية والانسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية .
-3-
وفي غمرة هذا التصريح الخطير، والتحريض المثير ، نهض (المسيّب بن زهير الضبي ) فقال :
” يا أمير المؤمنين :
ما سبقَنَا الحجّاج بأمر تخلّفنا عنه ،
والله ما خلق الله على جديد الأرض ، خَلْقا أعزّ علينا من نبيّنا (ص) ،
وقد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك ،
وفَعَلْنا ذلك ،
فهل نصحناك أَمْ لا ؟
فقال له المنصور :
اجلس ، لا جلست “
وما قاله (المسيّب) حافل هو الأخر بالعجائب والغرائب :
كيف يكون المنصور أميراً للمؤمنين وقد قتل أولاد النبيّ (ص) ؟!!
انه – بناءً على الاعتراف بهذه الجرائم – ينبغي أنْ يُسمَّى (بأمير المجرمين) .
ثم إنّ الزعم بأنّ أعزّ الخلق على (المسيّب) هو النبي (ص)، ما هو الاّ أكذوبة كبرى ،ودَجَلٌ صريح ، والاّ فكيف يُطاع (المنصور) في قتل أولاده (ص) ؟!
هل الحبُّ الصادق للنبي (ص) يجتمع مع (قَتْل) أبنائه الطاهرين ؟!!
انّ من أهم المؤشرات على خبث طوية (المسيب) قوله :
( ما سبقَنا الحجّاج بأمر تَخَلَّفْنَا عنه )
اي أنهم فَعَلوا فِعْلَه وكانوا مِثْلَه ….
وهذا هو الانحدار الى الدرك الأسفل من النار ..!!
انه إقرار رهيب بطاعة (المخلوق) وعصيان (الخالق) ، وهو معنى الافلاس ، لا في المجال العقائدي فحسب ، بل في جميع الحقول والمجالات : روحيا ونفسياً وأخلاقياً وانسانياً واجتماعياً وسياسيا وحضاريا …
ولقد أحرج (المسيب) الطاغية حين سأله :
(فهل نصحناك أم لا ) ؟
انها جرائم قبيحة وليست بنصيحة …!!!
ومن هنا ردّ عليه الطاغية بقوله :
” أجلس ، لا جلست “
لقد أغضَبَهُ هذا السرد الرهيب ، والعَرْضُ العجيب الذي أورده (المسيب الضبي) دونما خجل أو وجل .
إنّ هذا السرد نَفسه ، يُحمل في طياته ، كلّ ألوان الادانة للمنصور ، ولأوامره البعيدة عن الشرع والعدل والأخلاق ، ولكّل مَنْ نفذّ تلك الأوامر بما فيهم (المسيب الضبي) نفسُه ..!!
-4-
إنّ ذِكْرَ الحقائق يزعج الطغاة من السلطويين ،
ومن هنا امتعض المنصور وَوبَّخَ المسيّب على قوله ..!!
ونحن اليوم نشهد مَنْ يغضب أشدَّ الغضب اذا ذُكِرَّ بفشله الذريع ، وأدائِه الفظيع … الذي أوصلنا الى حافة الهاوية ..!!
-5-
انّ الحاضر والمستقبل لا يَنْفَصلان عن الماضي ،
ويبقى التاريخ معينا لا ينضب في مجال الإمداد بالخبرة والعبرة ….