23 ديسمبر، 2024 8:51 ص

-1-
اذا كانت السياحة في البلدان ، هوايةً محببة لدى بعض الناس ، فانّ هوايتي السياحة في بُطون كتب التاريخ والسيرة والأدب ، وفيها الكثير من الغرائب والعجائب، التي تزيد الانسان بصيرةً بشؤون الحكم والمجتمع…

-2-

ومن النصوص الملفته للنظر ، ما أورده المسعودي في مروج الذهب/ج3 /244 .

حيث قال :

” ذّكِر انّ المنصور قال يوماً لجلسائِه ، بعد قتل محمد وابراهيم :

تالله ما رأيتُ رجلاً أنصح من الحجّاج لبني مروان “

نسي المنصور لفرط صرامته وقسوته وغلظته، أنهم ثاروا على بني أميّة، لأنهم سلّطوا (الحجاج) وأضرابه على رقاب الناس، يسومونهم سوء العذاب ، وانتهجوا سياسة البطش والتنكيل بأهل البيت (ع)، وبكل الأحرار والحرائر من طلاّب مدرستهم، الرافضة للظلم والطغيان، وحين ثُنِيَتْ له الوسادة ، وأمسك بزمام السلطة، طفق يمتدح الحجاج بن يوسف الثقفي ، الجزّار المعروف بسفكه للدماء واستهانته بكل الحرمات والمقدسات …

أما السبب الكامن وراء هذا الامتداح الرخيص فهو :

تحريض الناس أنْ يكونوا له ، كما كان الحجاج لبني مروان …

اي أنه يدعوهم الى أنْ يبيعوا دينهم بدنياه … غير مُبالين بالخطوط الحمراء التي يعرفونها ، ليسلم له سلطانُه ، ولينعم بدنياه ولو على حساب جماجم الأحرار ، وأشلاء الأبرار،

وهذا هو الاستبعاد بعينه …

وانّه المسخ الكامل للقيم والموازين الشرعية والانسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية .

-3-

وفي غمرة هذا التصريح الخطير، والتحريض المثير ، نهض (المسيّب بن زهير الضبي ) فقال :

” يا أمير المؤمنين :

ما سبقَنَا الحجّاج بأمر تخلّفنا عنه ،

والله ما خلق الله على جديد الأرض ، خَلْقا أعزّ علينا من نبيّنا (ص) ،

وقد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك ،

وفَعَلْنا ذلك ،

فهل نصحناك أَمْ لا ؟

فقال له المنصور :

اجلس ، لا جلست “

وما قاله (المسيّب) حافل هو الأخر بالعجائب والغرائب :

كيف يكون المنصور أميراً للمؤمنين وقد قتل أولاد النبيّ (ص) ؟!!

انه – بناءً على الاعتراف بهذه الجرائم – ينبغي أنْ يُسمَّى (بأمير المجرمين) .

ثم إنّ الزعم بأنّ أعزّ الخلق على (المسيّب) هو النبي (ص)، ما هو الاّ أكذوبة كبرى ،ودَجَلٌ صريح ، والاّ فكيف يُطاع (المنصور) في قتل أولاده (ص) ؟!

هل الحبُّ الصادق للنبي (ص) يجتمع مع (قَتْل) أبنائه الطاهرين ؟!!

انّ من أهم المؤشرات على خبث طوية (المسيب) قوله :

( ما سبقَنا الحجّاج بأمر تَخَلَّفْنَا عنه )

اي أنهم فَعَلوا فِعْلَه وكانوا مِثْلَه ….

وهذا هو الانحدار الى الدرك الأسفل من النار ..!!

انه إقرار رهيب بطاعة (المخلوق) وعصيان (الخالق) ، وهو معنى الافلاس ، لا في المجال العقائدي فحسب ، بل في جميع الحقول والمجالات : روحيا ونفسياً وأخلاقياً وانسانياً واجتماعياً وسياسيا وحضاريا …

ولقد أحرج (المسيب) الطاغية حين سأله :

(فهل نصحناك أم لا ) ؟

انها جرائم قبيحة وليست بنصيحة …!!!

ومن هنا ردّ عليه الطاغية بقوله :

” أجلس ، لا جلست “

لقد أغضَبَهُ هذا السرد الرهيب ، والعَرْضُ العجيب الذي أورده (المسيب الضبي) دونما خجل أو وجل .

إنّ هذا السرد نَفسه ، يُحمل في طياته ، كلّ ألوان الادانة للمنصور ، ولأوامره البعيدة عن الشرع والعدل والأخلاق ، ولكّل مَنْ نفذّ تلك الأوامر بما فيهم (المسيب الضبي) نفسُه ..!!

-4-

إنّ ذِكْرَ الحقائق يزعج الطغاة من السلطويين ،

ومن هنا امتعض المنصور وَوبَّخَ المسيّب على قوله ..!!

ونحن اليوم نشهد مَنْ يغضب أشدَّ الغضب اذا ذُكِرَّ بفشله الذريع ، وأدائِه الفظيع … الذي أوصلنا الى حافة الهاوية ..!!

-5-

انّ الحاضر والمستقبل لا يَنْفَصلان عن الماضي ،

ويبقى التاريخ معينا لا ينضب في مجال الإمداد بالخبرة والعبرة ….

*[email protected]