تميز الأدب العراقي بظاهرة تعدد الأجيال، في فترة قصيرة من تاريخه الحديث، حتى أصبح الحديث عن الأجيال أمراَ ملزما لكل باحث في الأدب العراقي، وبالأخص السرد بشطريه ( الرواية والقصة القصيرة)، والملفت للنظر في هذه الظاهرة الأدبية ، ان عمر الجيل الأدبي الواحد لا يتعدى العقد من السنين، ولا نكاد نجد صلة كبيرة بين جيل واَخر ، أي وجود قطيعة فكرية ومنهجية بين تلك الأجيال المتعاقبة، بحيث لايتم جيل مانجزه الجيل الاَخر، فشكل السرد العراقي حلقات منفصلة بعضها عن بعض.. لذا تعد تجربة محمد خضير الأدبية في القص العراقي تعبيرا واضحا عن هذه الظاهرة، فقد تفرد هذا القاص بأسلوبه ( الواقع الأفتراضي) المفعم بالغرائبية والعوالم البديلة، التي تقذف بمخيلة القارئ الى مديات بعيدة من الدهشة والتفكير والتحليل، وتدخله في أجواء ساحرة مبهرة تمثل صورة أخرى للواقع، عبر عنها في نتاجاته الأدبية من خلال عدة مجموعات قصصية، كتبت ما بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي ( المملكة السوداء، في درجة 45 مؤية، بصرياثا، رؤيا خريف) .. في قصة (ساعات كالخيول) وهي أحدى قصص مجموعة صدرت له عام 1998 حملت أسم (تحنيط)، وضمت عدة قصص نشرت في مجموعات قصصية سابقة .. تبدأ هذه القصة بتقنية (الأستباق) أي ذكر عبارة كانت هي في الأصل خاتمة لهذا النص (فأجده نائما على فراشي، يدير وجهه للحائط، ويعلق عمامته الحمراء على المشجب) .. سارد داخلي يمثله شاب صغير، يروي قصته مع ساعاته القديمة، التي ورثها من عمه الذي كان يعمل بحارا (مازلت أملك حتى اليوم مجموعة من الساعات القديمة، تلقيتها من عم لي كان بحارا على سفن شركة اندروير) .. من هذه العتبة السردية، ينطلق بنا محمد خضير في عوالمه الغرائبية نحو الدهشة، مستخدما عنصر الزمن بكل دواله الحسية والمادية (الساعات، دفتر المذكرات، فصل الربيع، الماضي، الحاضر) هذا الزمن، شكل محور رئيسي دارت حوله رحى السرد القصصي (الزمن المحشو كقطن قديم في حشية صغيرة).. ساعد في بلورة هذا المفهوم الأبراز الجميل لثقافة المكان كما عرفها فوكو ( أخراج المكان من عالم السكوت الى المنطق) كما في النص الاَتي ( ثم هاهي ارصفة الفاو، تقود المصابيح جسورها الخشبية فوق الماء الى مسافة، وترسو في الفسحات بينها زوارق متجاورة تتأرجح أضواؤها ).. ان أتحاد هاذين العنصرين المهمين في السرد ( الزمان والمكان ) بهذه الطريقة الفنية الجميلة، جعل من الضرورة الخوض بمصطلحين سرديين هما (واقعية العمل السردي، وفنية العمل السردي) .. حملت القصة تفاصيل تمثل حركة البطل داخل النص، وتصوير المشاهد ووصفها، والحوارات المقتضبة، مما جعل جزء منها يحمل سمة واقعية انطباعية الى حد كبير.
يقرر الشاب بطل القصة، حمل أحدى ساعات عمه القديمة العاطلة عن العمل في جيب سترته، فيدله (قهوجي) المقهى الذي جلس فيه، على مصلح للساعات القديمة يسكن مدينة الفاو، التي تطل على الخليج العربي، أقصى جنوب محافظة البصرة، مسرح أحداث القصة (الطريق الى الفاو موحل، ومازلت اؤجل السفر، حتى كان صباح فيه مشمس، فاتخذت مكانا بين الركاب في باص، أنطلق بنا محملا بالأمتعة) ..كان كل شئ في النص يرتد نحو الماضي، ويخوض في الماضي ..الشوارع، الأبنية، الأسواق، بيت مصلح الساعات الذي تحول الى اَلة كبيرة للزمن، مُلأت باحته وجدرانه بالساعات القديمة، التي تدق حسب التوقيت في كل بلدان العالم.. ( ثم ضجت القاعة بالرنين: هل دقت سبعا؟ الليل في اندنوسيا.. أتميز الدقات الأثنتي عشرالأخيرة ؟ أنهم يغطون في سبات في أقصى الغرب من الأرض…) .. وقد رسخ حضور الماضي بكل تجلياته، القصص والحكايات التي رواها البحار القديم (مصلح الساعات) لذلك الشاب، عن رحلاته الغريبة ، والتي تعد أنتقالة سردية في متن النص بين الواقعية الانطباعية التي بدأ بها وبين حكايات غرائبية هي اقرب الى الخيال، أستحضرها البحار القديم ، في عملية (أسترجاع خارجي) كما عبر عنه الناقد جيرار جينيت، كان هذا الأرتداد يمثل للبحار القديم، كنوع من التعويض النفسي عن حالة عزلة فرضها على نفسه في بيته، أمتدت لأكثر من ثلاثة عقود، تلك المشاهد شكلت واقعا أفتراضيا موازيا للواقع، زج به القاص ليقدم لنا رؤية اجتماعية ونفسية مركبة، حين أنتقل السرد من الشاب الى ذلك البحار القديم، هذان الراويان الداخليان، اللذان تربطهما علاقة أيجابية نامية كما عبر عنها (فوستر)، شكلا حالة من التبئير السردي، كانا فيها في حالة أنسجام مع طبيعة الشخصية المتحركة داخل النص ( الراوي= الشخصية).. تلك الرؤية التي عرفها تودروف ( انها أهم شئ في العمل الأدبي، ففي الأدب لا نواجه أحداثا أو أمورا في شكلها العام، وانما نواجه أحداثا معروفه بطريقة ما، وتتحد مظاهر أي شئ بالرؤية التي تقدم لنا عنه) .. فقد اشارت تلك الرؤية الادبية في جزء منها، الى وحدة ثقافات منطقة الخليخ العربي، والأمتزاج الحضاري والفكري والأنساني بين سكانها ، كما في قصة البحار القديم التي روى جزء منها الى الشاب (تزوجت في البحرين من امرأة، أنجبت ثلاث بنات أعطيتهن لأبناء البحر).. وقد حمل هذا النص بالأضافة الى سمة الواقعية الممزوجة بعوالم غرائبية ، سمة فنية جمالية خلاقة، من خلال تقنية الوصف الدقيق للأشياء، واللغة المستخدمة في السرد والتي كانت سهلة منسابة، تتماهى مع الايقاع السردي الذي طغى على النص، والمتسم بالحوارات الهادئة، والأنتقالات السردية الأنسيابية .. وأما العنوان الذي يمثل مفتاح العمل، والعتبة الأولى لدخول عوالم النص، فانه كان يعبر عن تداخل فكري عفوي حدث في مخيلة البطل الشاب، كنتاج لسماعه قصص البحار القديم (مصلح الساعات)، في رحلاته الغريبة وعمله مع تجار الخيول عبر البحار، وصدمته وأندهاشه لرؤيته الساعات الكبيرة والقديمة التي كانت تغطي جدران بيته وفناء داره (فتحت الغطاء، كانت العقارب تدب، اطبقت على الساعة راحة يدي، وأنصتنا للبحر يدوي في ساعات القبو، القوائم الرشيقة للخيول تجري في شوارع الميناء).
يشكل أدب محمد خضير علامة مضيئة في تاريخ القص العراقي، وعليه يجب العمل على تحويله الى منهجية أدبية، تدرس لذوي الأختصاص في هذا المجال، للحفاظ على ديمومته، خشية من حدوث أي قطيعة أدبية معه، تؤدي الى أندثاره.