غالب الشابندر.. المثقف الذي اختار طريق الغفارية

غالب الشابندر.. المثقف الذي اختار طريق الغفارية

لم يكن غالب الشابندر مجرد اسم عابر في ساحة الفكر والسياسة العراقية، بل ظلّ طوال عقود يمثل نموذجاً خاصاً لرجلٍ آثر أن يعيش بعقله وقلمه لا بما تمنحه المناصب والامتيازات. خسر ولده الوحيد، وخسر معه بهجة الدنيا، لكنه لم يخسر قلبه الكبير ولا جرأته التي جعلته يقف على الدوام في صف الجياع والمظلومين.
عاد إلى بغداد بعد سنوات طويلة من الغربة القسرية، يحمل معه إرث حزبٍ كان يرى نفسه فيه ضميراً حيّاً أكثر من كونه تنظيماً سياسياً. فقد ارتبط اسمه بحزب الدعوة بوصفه أحد أبرز العقول المجددة فيه، وصاحب خطاب مختلف يذكّر بالمعنى الأول للتجربة الإسلامية قبل أن تغمرها موجات السلطة والمغانم.
لم يعرف الشابندر الترف الذي عاشه كثير من رفاقه، ظلّ يعيش حياة متواضعة مكتفياً بما يدره عليه قلمه وراتبه التقاعدي. لا شركات، لا عقود، ولا أموال سائبة. فقط رجل قارئ نهم، مفكر لا يتوقف عن التحليل، وشيعي متنور يرى في المواطنة سقفاً أوسع من الطائفة وفي الوطن قيمة أسمى من الحزب.
كان يستحضر دائماً تجربة “الغفارية” التي تتصل بروح أبي ذر الزاهد الثائر، ليذكّر أصحابه بأن الوطنية الحقة لا تنمو في ظل الفساد ولا تزدهر مع السلاح المنفلت. انتقد بصراحة تجاوزات السلطة، وتحدث بجرأة عن المال العام الذي تحوّل في أيدي البعض إلى غنيمة، فكان صوته نشازاً في وسط جوقة التصفيق.
هذا الموقف كلّفه الكثير. فمَن يضع أصبعه على جرح السلطة لا بد أن يثير حفيظة المنتفعين منها. وجد نفسه في مواجهة ضغوط وتضييقات وصلت حد تطويق منزله المتواضع. لكنه لم يردّ بغير قوله إنه رجل فقير، لا يملك سوى حذائه وضميره، وإن أستاذه في الفقه كان من ذات العشيرة التي وقفت ضده، ليؤكد أن الانتماء الأكبر عنده لم يكن يوماً للعشيرة أو الحزب، بل للحق.
غالب الشابندر اليوم ليس بحاجة إلى من يدافع عنه. فهو في حياته وزهده وكتبه ومواقفه يقدم دفاعه الحقيقي: رجلٌ لم يغره بريق السلطة، ولم يسكت أمام خطاياها، وظل يذكّر الجميع أن العراق أكبر من الطائفة وأقدس من الغنيمة.