هذه قصة قصيرة كتبها الروائي الكولمبي الشهير كابريل كارسيا ماركيز بعنوان ( الموت في سامراء ) وترجمها الى العربية محمد بوزيدان ونشرت في موقع القصة العربية بتاريخ 15 سبتمبر 2011. والترجمة الكاملة للنص تقول :
(( عاد الخادم إلى بيت سيده خائفا مذعورا:
ــ سيدي لقد رأيت الموت يتجول في السوق و رمقني بنظرة مخيفة.
أعطى له سيده فرسا و مالا و قال له: عليك بالفرار إلى مدينة سامراء.
لم يتأخر الخادم في ذلك .
و في ذلك المساء التقى السيد بالموت في السوق و قال له : لقد التقيتَ خادمي هذا الصباح و نظرتَ اليه بتهديد ووعيد..؟
لم تكن نظرة تهديد – أجاب الموت – بل هي نظرة استغراب لأنه لا زال هنا بعيدا عن سامراء و في هذه الليلة يجب أن أقبض روحه هناك.))
أنتهى ( النص ) وعلينا فهم مشفرة وجود ( سامراء ــ العراقية ) داخل النص بل هي المحور القصدي في هاجس القصة وفكرتها التي قد تبدو أطروحتها فلسفية في القراءة الأولى ولكنك في القراءة الاخرى عليك أن تضع التأويل والقصد لماذا اختار الكاتب سامراء وهو الكولمبي الذي لم يزر العراق يوما ما ولم يقترب في هاجسه الى بيئة بلاد بابل في اي من مقابلاته ورواياته وقصصه وربما كان له بعض الشخصيات الشرقية في رواياته واغلبها ( شامية ) بسبب وجود جالية سورية كبيرة في بلدان امريكا الاتينية ومزارع القهوة في كولمبيا يمتلكها الكثير من أبناء العوائل العربية واغلب اصولها من سوريا ولبنان..!
سنفترض أولا رؤية النص سامراء أنها لم تكن محددة بجغرافية المكان الحالي أي انها رمز اسطوري لمدينة يوتبيا كما يفعلها الكاتب الايطالي ايتاليو كالفينو في كتابه المثير ( مدن لا مرئية ) في ذكر اسماء مدن هي في خيال الرحالة ماركو بولو والامبراطور المغولي قبلاي خان . وكما فعلها عدة كتاب مع مدينة صور متخيلين انها يوتيبيا المكان المفقود بين جغرافية الاغريق والفينيق والشرق واتى الحديث عن مدينة صور الاسطورية في قصائد ملحمية للشاعر الفرنسي الحائز على جائزة نوبل سان جون بيرس ، ٬ون بيرس ، وحتى في قصص القاص العراقي محمد خضير تكاد تكون بصراياثا المدينة ( اللاوجود ) بالرغم من انه يحدد طبيعة المكان وخصوصيته لكنه يبقينا في هيام حلم البحث عن مكان . وأذا أتت قصة ماركيز القصيرة جدا ( الموت في سامراء ) ضمن هذا السياق فتقع في مدار رؤيا اليوتييبات التي يضعها الكُتاب كرموزٍ لوصول الفكرة واغلبها تكتب في القالب الملحمي والانشادي لقراءة التاريخ البعيد بوجه آخر ومثير فقد كنت أنا ( نعيم مهلهل ) أعتبر أن صناعة المكان الاثري المدهش بقدسيدهش بقدسية تأريخه وما يجلبه من احساس على الحاضر يمثل التواصل الشهي والحضاري بين الازمنة والامكنة البعيدة والقريبة والحاضرة الآن .فتصوير المدينة ( اليوتيبيا ) هي التجسيد الغير مباشر لرؤية افلاطون في فضيلة المدن الخالدة في سمو تفكير ملكها وشعبها وسناتوراتها ، وعليه فأن وجود سامراء في نص لماركيز يقع في حسابنا الأول ضمن هذه الرؤية ولكن مع ادراك ان رجلا مثقفا وصحفيا محترفا مثل ماركيز لابد ان يكون متابعا جيدا للمدن واخبارها وما تتعرض له حتى لو اصبح الان كهلا . فسامراء بعد عام 2003 ونتيجة لمجدها الغابر والكبير كانت يوما ما عاصمة للدولة العباسية ايام المعتصم ، وربما هي اكثر مدينة عربية من ذلك الزمن تؤسطر امكنتها بحكايات الاثر وغرابته وسبب بنائه ، كما انها تجمع ثلاثة امكنة مقدسة لدى مسلمي الشيعة هما مرقدي الامامين المعصومين الحسن العسكري ومحمد الجواد .عليهما السلام .وفيها مكان ولوج غيبة الامام المهدي المنتظر ( ع ) .وفيها ايضا واحد من المعالم الاسلامية الشهيرة وهي ملوية سامراء والذي لفتَ انتباهي كثيرا أن هذا الاثر حاضر بقوة في الذاكرة الهندسية المعاصرة .وأن شكله الحلزوني المرتفع هو بعض ذاكرة اليوتابيا ــ الحديثة عند الكثير من معماري هذا العصر ، وتأكد لي ذلك قبل فترة عندما كنت اتجول في الساحة المفتوحة بين كنيسة ( دوم ) الشهيرة في مدينة كولون الالمانية والمتحف الروماني وتفصلهما مساحة 100 متر .اثار انتباهي وجود معرض في الهواء الطلق بعنوان ( مدن ويوتوبيا وصورة ) وهو عبارة عن لوحات تصويرة اخذت بكاميرا فنية وهندسية لعدة امكنة مختارة من مدن العالم وبحدود عشرين مدينة ،وكانت ملوية سامراء من بينهن . وقتها احسست تماما بعالمية المدينة وذاكرتها الاسطورية في الخيال العولمي الجديد. وربما علي الآن أن اربط تلك اللوحة الترابية في التي اخذت من السماء للملوية وبدت في تقينتها الصورية وغرابتها الايحائية مثل مارد يخرج من قمقمه ويصعد الى السماء وبعيدا عن كل الامكنة المثيرة في هذه اللوحات من مدن الازتيك وحتى ابراج منهاتن المضروبة بأرهاب القاعدة وأبن لادن وقرى ايلة للطيران في صحراء الحبشة ليجذبني توثب المارد الملتوي ع�زمن بغرابة انتماء الاثر وتعدد مذاهبه واتخيل الذاكرة ( التركية ) لوالدة المعتصم وهي تنصح ولدها الخليفة : لنبتعد ياولدي عن بغداد فقد ملئت بالفرس ولنذهب هناك لنبني ( سر من رأى ). والعبارة تعني ان السرور والدهشة تسكن كل من يرى المدينة لأول مرة.
الرؤية الاخرى في تقديري لثقافة نص ماركيز وفكرته هو اختزال المشاعر الجديدة لانسان الحاضر في هذه العولمة التي ابتدأت على شكل شريحة ماكروسوفت وصحن لاقط وجهاز نقال ، وانتهت لتكون دبابة وربيع ثوري وسيارة مفخخة وهيمنة الاخوان المسلمين على صناديق الديمقراطيات وبروز المجد المعماري والاقتصادي المُشرف والرائع لمدينة اسمها ( دبي ) . (( الألمان هنا يعتبرون دبي شيئا سحريا لمكان شرقي اليف بناطحات سحاب وامكنة تسرهم .ولهذا فضل الكثير منهم بقضاء ( الأورلاب ) وتعني بالالمانية العطلة .في مدينة دبي دون جزر الكناري والكاريبي وجزيرة مايوركا الأسبانية .)).
هذه الرؤية وتردد اسم المدينة في الخبر الورقي والتلفازي عندما اعتبرت المدينة بعد عام 2003 مباشرة بالنسبة للامريكان هي ومدينة الفلوجة من المدن المقاومة . ( المشاكسة ) في تعبير بول بريمر وزلماي خليل . لهذا طغى اسمها على واجهة اخبار الجرائد والتلفاز وليتردد اسمها في مسامع ماركيز ليقلب الرجل ارشيفه التاريخي ويعرف من هي سامراء ولتأتي فكرة القصة بهذه الصورة المختزلة لمشهد كأنه آت من حكايات الف ليلة وليلة ولكنه برداء مرقط حاول فيه الامريكان والحكومة العراقية أن يهداوا من سطوة هذا الموت وهذه المشاكسة وأن يوكلوا أمن المدينة الى ضابط أمن سابق وحِريف ومن اهالي مدينة العمارة اسمه الفريق ( رشيد فليح ) وخاصة بعد ان تم تفجير المرقدين العسكريين الشريفين من قبل مجموعة ارهابية اعدم احد منفذي الجرم وهو تونسي قبل اسابيع قليلة بالرغم من وساطة الحكومة التونسية لدى مام جلال ( رئيس ــ العراق ) لاطلاق سراحة . وكان تعليق امي على ذلك : ( كيف يرضى مام جلال بأطلاق سراح من حول قباب الذهب بالدانميت الى تراب ؟)
وربما سمع مام جلال تساؤل امي ولم يعط أذنا صاغية لرجاء الرئيس المؤقت لدولة تونس . والحق أن الفريق رشيد فليح قد هدء كثيرا من مشاكسة المدينة وضبط ايقاع هدوءها ويحاول بجنوبيته ونسيان تاريخ انتماءه الى مؤسسة امنية قاسية في زمن صدام ( هو قبل السقوط تم زجه بالسجن لما كان يعتقد تهاونه في عدم الكشف عن مؤامرة يقال أنها دبرت لآسقاط النظام حين كان برتبة عقيد وامرا لسرية طوارئ امن بغداد على ما أظن ) أستطاع أن يهدء من روع المدينة ويكون متآلفا مع الناس فيها بالرغم من اشكاليات الطوبغرافيا المستحدثة بين الاهالي والحكومة وخاصة فيما يخص المباني المحيطة بالحرمين وطريقة استملاكها .
ذاته الفريق أفزعنا ذات يوم في ندوة ادبية اقامها اتحاد ادباء وكتاب ذي قار بمناسبة مرور شهر على تأسيسه عام 1992 . وكنت حينها عضوا أحتياطيا في الهيئة الأدارية عندما تفاجئنا بمدير أمن ذي قار ( المقدم رشيد فليح ) حين زار الاتحاد وابدى رغبته بحضور الندوة الأدبية للآديب الناقد والقاص داود سلمان الشويلي وكان يصحبه عنصر امن ومعه كاميرا تلفزيونية وللشهادة بدا الرجل لنا هادئا وينصت بأنتباه غير عابئ بذهولنا وخوفنا وتساؤلاتنا ونحن نرى لاول مرة في مجالس الادب مدير امن يحضر ندوة ادبية وعن البنيوية في القصة العراقية . ويومها قلت لاحدهم : لو مسألة مراقبة وتجسس فلن يأتي المدير بكامل اناقته وحتى دون حماية ، انهم كعادتهم يرسلون عناصرهم متخفين ومتلصصين .ولكنه اتى رغبة منه ليقترب من المشهد الادبي . لايهمنا ان يكون رجل الامن متذوقا للادب فربما يسكنه الشعر قبل ان ينتمي الى هذه الدائرة .الذي يهمنا ان لاتستدعى الهيئة الأدارية للتحقيق .وبالفعل استمع مدير الامن الى محاضرة البنيوية في .وصورها كاملة . وبابتسامة صافحنا وودعنا وغادر ولم يحدث شيئا بعد ذلك ولم نره إلا بعد عام 2003.
أذن ماركيز يتحدث عن مدينة يحكمها الآن فريق في الشرطة ومدير امن سابق اسمه رشيد فليح . مدينة لها تأريخ في احداث الوطن طولا وعرضا .اتى منها القوميون القدامى . والبطيخ اللذيذ .واكاديموا الجامعات .وضباط ركن كُثر في الجيش العراقي . ومنها يتداوى مرضى العراق ففيها اكبر معمل للادوية بنيَّ بمواصفات المانية بالتعاون مع شركة باير ، وكان براستول الصداع المنتج في سامراء يتفوق على اي دواء اجنبي للصداع .
اذن الرؤية الاخرى لقصة ماركيز وعلاقتها بمدينة سامراء تقوم على هاجس انها مدينة يجوب شوارعها في ازمنة الاحتلال الاولى جنودا امريكيين وأنهم مهما اختبيء فيهم مرح ليالي لاس فيغاس وهوليود وحانات هارلم وشواطئ فلوريدا فيقد يكون مكان صمتهم الابدي هنا في ( سامراء ) . ولهذا يقربها ماركيز من الموت ويضعها كمكان له علاقة جدلية بشهرتها التاريخية ووقفتها لتكون مدينة مقاومة او مدينة لسفك الدماء بأغراض شتى . فلقد اختارها الكاتب من خلال مرجعية الأثر وشهرته وعلاقته بالعولمة الامريكية التي كانت في جانبها العسكري صاخبة وحاسمة ومدمرة كما في كابول وبغداد لتظهر لنا المدن من خلال ثوبها التأريخي وتتميز على غيرها من المدن المقاومة في الجانب الوطني وليس المتطرف المعاند والهمجي الذي مثله الزرقاوي بأبشع صوره عندما قطع رؤوس أسراه على شاشات التلفزيون ، فكانت بعض صور تلك المقاومة الحقيقية تظهر في مدن ( سامراء ، الفلوجة ، قندهار ، النجف ، الحيانية ) .
القصة هي اسقاطات يراها الكاتب عبر احداث دامية لبلاد ارادت ان تتخلص من حاكمها بطريقة الحلم العسير وسرفات الدبابة فوقعت ضحية فوضى اختلاف الرؤى والاجندات وسوء الادارة ، لينقل لنا مراسل الصحيفة والقناة التلفازية بعد عام 2005 .سيناريوهات غريبة وصور بشعة للقتل من قبل الطرفي المتصارعين ( المقاوم والمحتل ) وربما حرب الشوارع في الفلوجة وبعضها في سامراء بين الامريكان ومقاوميهم نقل الصورة الى ماركيز بخيال جيفاري وتعامل مع الامر بذاكرته الثورية اللاتينية غير مدرك للفرق بين عولمة بنادق الليزر والحزام الناسف وسيجار فيدل كاسترو .
لهذا وكما اعتقد فضلَ كابريل ماركيز في قصته ( الموت في سامراء ) أن يتعامل مع المشهد والحدث الصاخب في بلاد بابل بهذه الرؤية الفلسفية والصوفية والمختزلة والتي أظهر فيها الكاتب وجهة نظر كوميدية وواعية لما يحدث في العراق وليحدثَ قارئه بهواجسه وتصوراته لذلك المكان التأريخي الصاخب بالاحداث بين اهله ومحتليه ، وهو يقول لنا : أن لامفر من الاختباء من حقيقة أن مكان الموت الموعود للجندي والضد المجابه له هو ( سامراء ).
كُتبَ النص برؤية وفق هذا التصور كما اعتقد في قرائتي المتكررة له ، وكل هذا التكثيف الذي فيه أنما يمتلك دالة عاكسة للحدث الكوني الذي اتت به احداث الثمانينيات وقبلها في امتدادات حرب الخليج الاولى والثانية . واتى انهيار الاتحاد السوفيتي واتت احداث الحادي عشر من سبتمبر كما القشة التي قصمة ظهر البعير وليتغير العالم من حال الى حال .وبهكذا كثافة ومعالجة نشاهد كما في النص أن كاتبا على نمط ماركيز المتصف بالسردية السحرية لم يتحمل متغيرات المشهد الذي تعود عليه من خلال ميتافيزيقا الغرام الغرائبي وتجار الكوكائيين والدكتاتور المتقاعد . ولم تعد كائنات ماركيز تغري القارئ بالكشف السحري عن مشفرة الحدث ، فلقد اتت متغيرات غرائبية فضحيتها انها تشاهد وترى في لمح البصر من قبل الجميع ليس بفضل رواية مثل مائة عام من العزلة بل بفضل مايكروسوفت والاقمار الصناعية وقنواتها التلفازية التي يمكنها ان تبث الحدث من لحظته وبالثواني . لهذا كان ماركيز وبالرغم من ضعف بصره وكبر سنه أن يراقب الاحداث ويتأثر ويكتب قصته في هكذا دينامكية جديدة.
لقد بنيت تصوري لرؤيا النص على ما افترضته من احداث وقعت في سامراء بعد 2003.ولااعرف إن كان الكاتب كتب قصته ضمن ما أراه وأفسره لأني اصلا لا أعرف تأريخ كتابة القصة ولكن قراءتي للنص قادني لاتصور واضع هذا الافتراض .وربما يلغى كل هذا الذي قلته إذا كان ماركيز كتب قصته هذه ( الموت في سامراء ) قبل احتلال العراق .وربما ان كان النص مكتوبا قبل الغزو يمكننا أن نضع النص في رؤيا نبؤة القاص لما سيحدث في هذا المكان من العالم لاسيما ان العالم كله من مجريات ما كان يحدث بين علاقة العراق والولايات المتحدة وزيارات فرق التفتيش الاممية أن العراق ينتظر دوره بعد افغانستان لامحالة.
وفي تقديري وانا استعيد في دهشة اختزال الحدث في قصة ماركيز ( الموت في سامراء ) أن أتذكر تكنيك الرؤى في معالجة المشهد عند فرانسيس كابولا صاحب الفيلم المهم ( الرؤيا الآن ) فلو كان حيا الآن وقرأ قصة ماركيز هذه لعمل منها فيلما ربما يكون عنوانه ( سامراء الموت الآن ) .
[email protected]