19 ديسمبر، 2024 3:17 ص

غائية النص وجدلية الشكل والمضمون

غائية النص وجدلية الشكل والمضمون

الادب ليس مطلقاً ولايمكن ان يكون، لانه ببساطة ينأى عن التجريد الشامل. واذا كانت النظرية الجمالية- الكلاسية- تعتقد ان محدودية الخطاب الادبي تتأتى من كون الخطاب ملزماً بتأدية معنى اصطلح على تسميته بالمضمون. وكل مضمون او معنى محدود بالجسد الذي يحتويه، بالشيء، بالموضوع. اما عندما ينفتح الخطاب الادبي على المعنى بالذات وليس معنى شيء او موضوع، فكأنما انفتح على اللامعنى. ولذلك يسقط كخطاب ادبي ويصبح هذراً. فان وجهة النظر المعاصرة تقرر بان العلاقة بين مختلف جوانب الصورة، بين الحسي والعقلاني، بين المعرفي والابداعي، تعكس بوضوح العلاقات بين الفرد والمجتمع في كل عصر، وهي وثيقة الارتباط بهذا النمط مباشرة.
والاعمال الادبية الاصيلة الخالدة، تتولد من حساسية الكاتب بالامور التي يهتم بها المجتمع اهتماماً عميقاً، ومن قدرته على تجسيدها بشخصيات واقعية وباقدار انسانية لا ان يراهن على المبالغات غير المفهومة التي تراهن على اللفظ مرادفاً للشكل وبديلاً عن المضمون او الاطناب في تفسير الاشياء من الداخل مع اهمال كلي للخارج، مما يتعارض مع حقائق الاشياء. فليس من مواصفات الشكل ان يكون قادراً على تجميل صورة الحياة واستبدال بؤسها بآمال عريضة في ظهر الغيب، غالباً ما لا يكون… او السقوط في تجليات النزعة الغيبية التي تخرج اكثر الاشكال سلبية، كالاتكالية والتحلي بالصبر والحض على عدم المواجهة من خلال الايمان بمعجزة الوهم.
وبمعنى من المعاني، فان الشكل الفني الناجح هو الذي يحصل نتيجة لنشوء وعي جديد ينبثق عفوياً من ضمن الرؤية نفسها. بكلام آخر، ان المضامين تتخذ اشكال نفسها، فاذا كانت الرؤية تقليدية تكون الاشكال تقليدية واذا كانت الرؤية ثورية تكون الاشكال الفنية ثورية ايضاً. بكلام آخر ايضاً، الشكل الجديد مؤشر لحصول ثورة في الرؤية. لذلك، فأن الكاتب يرفض محاولات الفصل بين المضمون والشكل ويعتبر التمييز بينهما نوعاً من التحليل المفتعل.
على الصعيد النظري، كثر الحديث عن جدلية العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الادبي، واهتم المشتغلون بنظرية الادب بالتأكيد على ان البحث في هذا المجال قد اخذ منحى لا يكتفي بتكرار ان ثمة علاقة عضوية بين شتى مكونات العمل الفني فحسب او ان من المستحيل الفصل بين الشكل والمضمون في اي تناول جاد للنص الادبي وانما يعمد الى برهنة ان للشكل الفني نفسه محتواه الذي لا يقل اهمية عن كل ما سبق ان تعارض النقد الادبي على انه مضمون.
واخذت الدراسات العديدة عن محتوى الشكل تميط اللثام عن اسرار النص الادبي، وتكشف لنا عن المزيد من علاقات التماسك داخل العمل الفني الجيد والتي تقضي قوانينها الداخلية بأنه لا بد من انسجام محتوى الشكل لا مع محتوى المضمون نفسه فحسب وانما مع شكل هذا المحتوى كذلك.
وعليه، فان الفصل بين الشكل والمضمون، بين الصياغة والرؤية، انما هي حالة من حالات الانقطاع والتواصل تقود الى السقوط في تبريرات ميكانيكية تحاول ان تصطنع ولغايات محدودة موقفاً فنياً بحتاً. ويمسي الامر من قبيل الدلالة المباشرة التي تنظر للشكل على حساب المضمون.
وأياً تكن اغراض ذلك، فان نقطة البدء فيها لا يمكن ان تكون شيئاً آخر غير التحليق في اجواء تتجاوز النص الى صداه، الى افاق لا تتضمنها بنية النص الماديةالمباشرة بل تؤلف ما ورائية دلالية يكتشفها او يبينها القارئ بينه وبين ذاته وعلى طريقته.
فالنص كأنعكاس ذاتي لعالم موضوعي، هو تعبير عن وعي يعكس شيئاً ما. وعندما يصبح النص موضوع معرفة بامكاننا عندئذ التحدث عن انعكاس لأنعكاس. ان فهم النص هو بالضبط انعكاس، ومن خلال انعكاس الآخر يمكن الوصول الى الموضوع المنعكس.
وكنقطة استثناء موضوعية، فان الوحدة الراسخة بين الشكل والمضمون يفترضها التتابع العقلاني التطوري الذي يساهم باستمرار في ايجاد حصيلة مركزة منتقاة يدعمها التعامل الموضوعي للواقع المقرون بالتحرك على ارضية حسية تنبثق عنها تجارب حية بديلاً عن التجاهل والتزييف والتهرب من الحقيقة بالتعامي عن قصد.
وكذلك، من التبسيط الشديد موازاة الشكل بالموضوع مهما تلبس الشكل من تمويهات وقيم جمالية باذخة وبارعة، لان الشكل الفني لا تكتمل ابعاده الجمالية وتتألف رؤياه الشكلية حتى يكتمل وينضج مضموماً وفكراً.
اذ ليس ثمة من فرقة بين الشكل والمضمون في ايما عمل ادبي او فني وانما هي كل مؤتلف موحد. فلا مضمون الا وله شكل يكافئه، ولا شكل الا وينبض بمضمون يناسبه ويماشيه عمقاً وشمولاً. ولذلك فالفقر الايديولوجي الذي كان يعيشه شعراء هذا الجيل ومن اثارهم الشعرية لا يمكن له ان يتمخض الا عن فقر جمالي وفجاجة شكلية في التعبير الفني والابداعي.
ولعل ما يشكل الجوهر الاهم في الموضوع، ان الابداع الادبي في ظل الظروف المعاصرة وحيث يحتدم الصراع وتباشير المشروعية الوطنية والقومية والانسانية، والطبقية محفزاتها، فان من غير الصائب ان تكون الاجابة الشافية مجرد محاولات ايحائية لابد ان ينتج عنه بيادر من الكلمات الملونة والالفاظ المزركشة او حوارات تهدجية في المطلق المجرد التي تتسم بالغربة واللامواجهة حين يلجأ الى تفسير بؤس الناس في معارج الهروب او في النفس الانسانية او قبول واقع التألم في صمت، بل وتزيينه بتفسيره جهداً انسانياً بالغ الثراء من دون اضاءة لخلاص ذلك الانسان ولتلك المجتمعات التي تعاني من تعاسة جسيمة دون ان تسقط كلياً. تلك التنظيرات التي طالت الشكل والتي تمخض عنها تجديد منهجيات معرفية ساهمت في انتاج ثقافة الحداثة التي طبعت عموم المجالات الانسانية.
    -2-
ليس صواباً ابداً ان الشكل الجميل من شأنه ان يقوض بالضرورة مضاعفة كل حقيقة مأساوية ويجعلها قابلة للاحتمال البشري بل ولذيذة. ان ذلك محض هراء وصفاقة ألغاز ورؤيا غبية.
ولو تناولنا الرؤية التي يرى فيها لوكاش ان ايقاعاً جديداً في التنظير قد بدأ فيها كشكل من اشكال الابداع الادبي- ونعني به الفعل الروائي- من خلال العودة بالرؤية من بحار الفعل الفني الصرف الى ضفاف جديدة تتآخى عندها اللعبة الفنية مع البعد الاجتماعي الهادف، والعمق الفلسفي الواقعي. اي ان الدعوة عنده تأتي اكثر تجانساً مع مفاهيم الالتزام الفكري والاجتماعي، لان توجه لوكاش نحو الرواية هو بالضرورة سياسي وتاريخي، فرؤياه تقوم دائماً ضمن نظام فلسفي، اذ ان كل شيء في العمل الادبي سياسية، والرواية الواقعية هي الشكل الفني الانسب الذي يعبر للحياة عن العلاقة بين السياسة والتاريخ. اذ ليس هناك من عمل فني يقدر ان يقف حجر عثرة امام المحيط التاريخي والسياسي الذي يكتب فيه. ان الحقيقة الاقتصادية والاجتماعية تقوم دائماً بافراز بيئة ادبية متناسبة معها من خلال تفتيشها عن اشكال تعبيرية اكثر جدارة، بحيث تعيد تكثيف ابعادها لتفرض حضوراً اخاداً وبالتالي يكون الابداع قادراً على عكس الواقع وخاضعاً لمنهج تحليل المضمون لكي يمكن الوصول الى حالة الاستنتاج التي تبلور المحتوى وتمكن من الفهم والتبرير.
وبهذا المعنى، يمكن القول ان ليس هناك من تنظير للرواية لا يستند الى ايديولوجية معينة دون ان نسقط هامش التجديد على المحتوى الذي تفترضه طبيعة التطور. وفي هذا السياق عبَّر د.هـ. لورنس بقوله: “ان الفن الذي يسعى للوصول الى معادلات كاملة بين الانسان والحياة، يظل ابداً جديداً” وبغير ذلك، فان اية نقلة في الفهم ستظل تفتقر الى ما يكفي من امكانات مراعاة لنسق المضمون المراد توضيحه.
فالكاتب الملتزم بقضايا الناس والحياة عندما يصف جمال الحياة، فانه يثري رؤى الادب بمضامين ذات افق شمولي ويرفد الحركة الادبية بصيغ تعبيرية تمجد الحياة ونضال الجماهير. والادب الثوري معني بالضرورة عن الكشف الوافي لجمال الحياة بشكل يظهر في الصورة اصغر التفاصيل التي بمجموعها تشكل الجوهر والمعطى للوجود. واذا كان الادب ليس الهاماً بل هو مطلب شديد الحيوية لارادة وافكار الناس، فان الادب المطلوب لابد ان يكون قادراً على اضائة طريق المستقبل من خلال الالتحام بقضايا الناس الطيبين. فهموم الانسان هموم مشروعة وانسانية، فطبقاً لما يقوله الشاعر الفرنسي اراغون: “ان كل بيت من الشعر يشارك في المعركة مباشرة” لان الشعر انما هو الحياة.
-3-
الادب، قبل كل شيء لابد ان يكون منحازاً في هذا الجانب او ذاك، اذ يستحيل وجود ادب بين بين، حتى لو افترض البعض خطأ. فالتنظير بخصوص حيادية الادب يفقده القدرة على المساهمة في صناعة الآمال والطموحات، ويفقده ايضاً جدارته في الاسهام بخلق الوعي الجديد الذي يشكل مقدمة للتغيير وحل التناقضات الصراعية. والا فأن الاديب سيكون كالبرجوازي ضائع، ويفقد التماس مع العالم الجديد الذي في قمة الحمل اذا لم يحزم امره على الانفصال عن السهولات الاجرامية والايديولوجية المعادية للحياة التي ما تزال تسيطر عليه وعلى الانحياز بجراءة الى المستقبل.
ان العالم الجديد، العالم الاجتماعي، العالم المنظم، الممركز والمخطط الذي سوف تتحرر فيه الانسانية من الآلام اللاانسانية غير النافعة، سوف يجيء لانه يلزم ان يخلق نظام خارجي وعقلاني يتناسب مع المستوى الذي بلغته الروح الانسانية او في اسوأ الحالات ان ينشأ على قاعدة انقلاب عنيف من اجل ان تستطيع قيم الروح ان تحصل آنذاك من جديد على حق الحياة وعلى صفاء النية على المستوى الانساني.
ان عدم قبول تلك الرؤية الجديدة سيعكس لا محالة انفصاماً مصطنعاً او في الاقل تحقيق حالة عدم التوازن المطلوبة بين الانا والنحن، اي السقوط في اشكالية الذات على الرغم من وهج الواقع القاسي.
ومن الممكن القول بثقة استناداً الى ما قدمنا، ان الحل الوحيد لتلافي السقوط في البربرية والتخلف والظلامية والسذاجة والاستغلال، وجود نص حقيقي او افتراضي تدعمه التبادلية او الحوارية الهادفة. وبعد ذلك وقبله، وجود الانسان، نشاطه وكفاحه، يساعد على اعادة صياغة العلاقات الانسانية وفق منظور يعكس حجم الوعي الانساني الذي يطمح في استشراف افاق المستقبل وتغيير الواقع المزري الى واقع اكثر انسانية.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات