في بلادٍ تلبس الوجع كوشاح، لا يُستغرب أن تضيع العدالة في زحمة التواقيع والمخاطبات، وأن يتحول الشرطي من حارسٍ للأمن إلى ذئبٍ يرتع في حقول الجراح… ؛ هنا، في عراق ما بعد الخراب، كل شيء قابل للكسر… ؛ حتى كرامة المواطن.
قصة ليست غريبة… لكنها موجعة أكثر ؛ ففي محافظة الديوانية، حيث الحياة تمشي على رؤوس أصابعها، وقعت جريمة ليست غريبة على من يعرف سيرة بعض رجال الشرطة هناك… ؛ شرطيٌ يرتدي بزّته كقناع، يصفع طالبًا صغيرًا على عينه، في الشارع العام، دونما ذنبٍ يُذكر او لا أقل يستحق انزال هذا الوجع بحق الضحية … ؛ ضربة واحدة كانت كافية لإطفاء ضوء تلك العين، إلى الأبد. اسمه “ذو الفقار”، مراهق يقرأ مع زملائه، لا يحمل سلاحًا ولا يهتف بشعار، مجرد طالب يسكنه الحلم، فاستيقظ على كابوسٍ صنعته يد الدولة.
انتشر فيديو والد الضحية كالنار في هشيم مواقع التواصل الاجتماعي… ؛ رجلٌ بسيط، يصرخ متوسلًا إلى رئيس الوزراء: “أنقذوا ابني!”
لكن الصوت ضاع، كما ضاعت عيون كثيرة قبله… ؛ اذ لم تكتفِ الشرطة بالاعتداء، بل احتجزوا الأب والابن، صادروا هوياتهم، وكأنهم يقولون: “نحن فوق القانون، وفوق الإنسان.”
ليلة في التوقيف… وعينٌ تنزف حتى العمى
الضابطان “سجاد” و”أحمد”، كما سمّاهما الأب، رفضا إسعاف الشاب بعد الضرب المبرح بـ”الدونكي”… ؛ ذو الفقار نُقل إلى التوقيف، كأن جريمته أنه نُظر إليه خطأً او تفوه بكلمة اعتباطية بريئة … ؛ والد ذو الفقار وشقيقه الأصغر حاولوا زيارته في مركز الشرطة ، فكان مصيرهم السجن أيضًا… ؛ و لم يكن ذلك توقيفًا، بل عملية مساومة قذرة: “تنازلوا عن الشكوى… أو نمضي الليل سويًّا خلف القضبان.”
رفض الأب هذا العرض ، وكان ثمن الشرف باهظًا… ؛ حتى الصباح، ظلت العين تنزف، والوجع يتضخم… ؛ و في اليوم التالي، وبعد إطلاق سراحهم، حملوا ابنهم إلى مستشفى “ابن الهيثم” في بغداد، لكن الوقت كان قد تأخر، والعين كانت قد سلّمت أمرها للظلام.
الدولة تبرر… والناس تلجأ للعشيرة
ما إن خرجت القصة للعلن، حتى بدأت ماكينة التبرير تدور… ؛ اذ قال بعض أفراد الشرطة – في الديوانية – إنهم نقلوا الشاب للمستشفى فورًا، وأنه “أساء” للشرطي بألفاظٍ نابية… ؛ هكذا، ببساطة، يتم تبرير قلع العين بكلمة!
لكن، ألم يكن من الأجدر أن يكون الرد قانونيًا لا همجيًا؟
أليس هذا شابًا ضعيف البنية، لا حول له ولا قوة؟
أحيانًا، يكون العذر أقبح من الجريمة، بل هو الجريمة ذاتها.
حين يسقط القانون، يعلو صوت العشيرة، وتصبح الميليشيا ملاذًا، والحزب بابًا للإنصاف… ؛ ومع هذا، يلوم البعض العراقيين حين يبحثون عن العدل خارج مؤسسات الدولة، متناسين أن الدولة هي أول من خانهم.
من يرد البصر… ومن يرد الكرامة؟
الحادثة ليست معزولة… ؛ إنها نقطة في بحر من الانتهاكات التي لا تُحصى… ؛ من المسؤول؟ : الشرطي؟ الضابط؟ الوزارة؟ أم نحن، الصامتون ، الذين نحترف التعايش مع الذل كأنه قدَرأ ؟
أين قوانين منع التعذيب؟
أين الأجهزة الرقابية؟ أين البرلمان؟
ألا يستحق ذو الفقار جلسة عاجلة، تحقيقًا شفافًا، محاكمة عادلة؟
أم أن العدالة في العراق حبر على ورق، لا يُقرأ إلا على قبور الضحايا؟
نحن بحاجة لا إلى لجان تحقيق باردة، بل إلى قوانين حاسمة تمنع رجال الأمن من أن يتحولوا إلى جلادين… ؛ نحتاج إلى تربية أمنية على حقوق الإنسان، إلى دورات أخلاقية لا عسكرية، إلى شرطةٍ ترى في المواطن إنسانًا لا مشتبَهًا به.
ختامًا…
ذو الفقار خسر عينه، لكننا خسرنا أكثر: خسرنا وهم الأمان، وسقف العدالة، وخيوط الثقة بين المواطن والدولة… ؛ في عراق اليوم، لا يكفي أن تكون بريئًا، بل عليك أن تكون محظوظًا كي تبقى سليمًا… ؛ أما الشرطة، فلا تزال تضرب، وتسجن، وتكذب… والناس تنتظر “رجل دولة” يعيد لها البصر.