في الخامس عشر من شهر حزيران؛ صدرت أول صحيفة (عراقية) تحت اسم (الزوراء) في عام 1869 ليتخذ من هذا اليوم عيدا لصحافة (العراقية)؛ تحتفل الأسرة الصحفية في (العراق) كل عام بهذه المناسبة ليكون مرور 155 في هذه المرحلة من (تاريخ العراق) معبئا بالانتهاكات منذ احتلال (العراق) في 2003 من قبل القوات (الأمريكية) الغاشمة، وطيلة السنوات السابقة مارست السلطات التي توالت على إدارة شؤون الدولة مضايقات لا حدود لها ضد الصحفيين الأحرار؛ سواء بالتهديد.. والترهيب.. والقمع.. والقتل لأي صحفي (ينقد) أو (يكشف) عن فساد أو انتهاك لأي شخصية متنفذة في إدارة السلطة أو من الأحزاب والميلشيات الحاكمة أو من يتجاوز على حقوق المواطنين أو عن حقوق ممتلكاتهم أو ممتلكات الدولة أو عن جرائم القتل تنفذها تلك الجهات سواء من أجهزة الدولة أو من الأحزاب والميليشيات المسلحة أو من التنظيمات الإرهابية المتطرفة؛ ليتم تصفية .
وخلال هذه الفترة تم ما يزيد على 500 صحفي في ظروف مختلفة، ومازال استهداف الصحفيين يجري في (العراق) على قدم وساق، بل إن اليوم تصاعدت وتيرة استهداف الصحفيين إلى تهديد.. وملاحقات قضائية.. وترهيب، ليصبح (العراق) اخطر مكان في العالم لممارسة مهنة الصحافة – بحسب التقارير والشهادات الدولية – وكان أخرها تقرير ألأممي الذي تزامن مع توجيه (القضاء العراقي) انتقادات لاذعة للقناة (العراقية) الرسمية على خلفية تصريح الصحفي (سرمد الطائي) الذي انتقد في حديث له رئيس المحكمة الاتحادية وشخصيات سياسية وأمنية، وقال مركز (ميترو) للحريات الصحافية:
((.. إن المادة 226 شبح يطارد الصحافيين في العراق، مشيراً إلى أن الحرية في العراق، ما تزال مقيدة في البلاد.
و تنص هذه المادة ..(( يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية..))،
وذكر المركز في هذا البيان ((.. أن السلطات ما زالت تعتمد أسلوب الترهيب القانوني وسياسة تكميم الأفواه والعودة إلى أساليب الزمن البائد، لكن هذه المرة باستخدام القانون ونصوصه للنيل من كل شخص يطرح وجهة نظر أو يعبر عن رأي مخالف للسلطة، حتى وإن كان صحافيا، رغم أن الدستور العراقي كفل حرية التعبير في نص المادة 38، وأن حرية التعبير في العراق ما زالت مقيدة ومهددة من قبل أصحاب القرار والنفوذ في العراق، وتنتهك يوميا على مرأى ومسمع السلطة، وهذا ضد حق حرية التعبير الذي كفله الدستور، وكذلك قانون حماية الصحافيين المرقم 21 لسنة 2011، ومن هنا لابد إن يعامل الصحافي معاملة خاصة ويكفل له حق التعبير وإلغاء المادة 226 أو تخصيصها وتفسيرها لما تحمل من تفسيرات فضفاضة مختلفة التأويل؛ يتم تطويعها كل مرة للنيل من بعض الصحافيين والناشطين والمفكرين، مؤكد بان الصحافة كانت وما تزال مرآة للمجتمع وكل المحاولات لتغيير الواقع أو تجميله أو تطويعه في اتجاه معين، فاشلة ولا طائل منها؛ فالحقيقة تنتصر دائما على الزيف..)) .
واستناداً للتقرير ألأممي الأخير فقد تم ((.. مطالبة الحكومة العراقية بإجراء تحقيقات فاعلة وفورية وشاملة ونزيهة ومستقلة وشفافة وحقيقية في جميع مزاعم الجرائم المرتكبة ضد المتظاهرين والناشطين والصحافيين والمنتقدين.. ضمان لامتثال السلطات العراقية لمعايير القانون الدولي وحقوق الإنسان فيما يتعلق بالتحقيق في جرائم استهداف المتظاهرين.. ))،
ولأكن لا يزال الإفلات من العقاب سيد الموقف في (العراق) وخاصة بما يتعلق بهجمات تستهدف متظاهرين وناشطين والصحفيين والذي يرتكب هذه الجرائم هم عناصر مسلحة وجهات سياسية – كما أفاد تقرير الأمم المتحدة – معتبرين ذلك يشيع بيئة من الخوف والترهيب تقيد حرية التعبير.
علما بان (العراق) شهد خلال فترة تشرين الأول 2019 والتي عرفت (بثورة التشرين) موجة تظاهرات كبيرة عمت العاصمة (بغداد) ومعظم مدن جنوب البلاد، طالبوا الثوار بتغيير النظام؛ ولكن الثورة (الشبابية التشرينية) تعرضت لقمع واضطهاد لا مثيل له؛ حيث أسفرت هذه الملاحقات عن مقتل أكثر من 600 متظاهر وأصيب ما لا يقل عن 30 ألفا بجروح، ورغم تراجع زخم التظاهرات لكن العديد من الناشطين ما زالوا يواصلون المطالبة بالمساءلة ومحاسبة المسؤولين عن قمع التظاهرات وقتل ناشطين، من دون إن تتمكن الدولة الكشف عن هوية منفذي هذه الجرائم بحق المدنيين والصحفيين وأصحاب الرأي لحد كتابة هذا المقال، في وقت ذاته ما يزال الأشخاص الذين يعبرون عن المعارضة يتعرضون لخطر الانتقام من الجماعات المسلحة؛ وهذا ما أعربت الأمم المتحدة – وفقا للتقرير – عن قلقها من (( عدم إحراز تقدم في المسائلة عن الجرائم المرتكبة ضد المتظاهرين والمنتقدين والناشطين، بذريعة عدم إمكان إحضار المتهم إلى المحكمة، حيث ما يزال الفضاء المدني محدودا في العراق..)) وهذا ما يجعل المجرمين يتمادوا بجرائمهم لأنهم على يقين بأنهم سيفلتون من العقاب ليس فحسب على الجرائم المتعلقة باستهداف حرية التعبير بل حتى باستهداف المتظاهرين والمطالبين بالوطن .
فالصحافة اليوم في (العراق) ليست على ما يرام.. ليست بالقوة التي انطلقت بعد 2003 في خضم التغيير الذي كان يحدث في (العراق)؛ فكان الصحفيين يسعون إن يأخذوا دورهم في النقد المرحلة وطرح سبل قيادة الدولة بما يضمن حرية الرأي والتعبير وبناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية يتمتع الشعب بحقوقه المدنية وتحترم حقوق الإنسان بتشريعات عادلة يتمتع جميع مكونات الشعب بالحرية.. والمساواة.. والعدل.. والإنصاف؛ الكل يؤدي واجبه الوطني في الدفاع عن سيادة (الدولة العراقية) واستقلالها دون الخضوع لإرادة المحتل أو تذليل الدولة بالتبعية أي جهة كانت ومهما كان نوعها أو شكلها، ولكن الرياح لم تجري بما تشتهي السفن، حتى اختطفت الدولة بقوات الاحتلال.. وبالميلشيات المسلحة.. وبالتنظيمات الإرهابية.. فتم تفتيت مؤسسات الدولة المدنية والاقتصادية والعسكرية والأمنية بشكل كامل؛ ليمهدوا في تخلخل الميلشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية بحجة مقاومة المحتل في وقت الذي كان المحتل هو من يمول هذه الجماعات الخارجة عن القانون لخلق فوضى خلاقة يكون هو المستفيد، وحين واجهة الصحافة ما يحدث في البلاد حتى واجهت (الصحافة العراقية) ومنتسبيها مواجه عنيفة في الاستهداف المنظم، فتعرضوا الصحفيين لحالت التهديد.. والاختطاف.. والتعذيب.. والقتل.. والتعويق؛ ليدخلوا الرعب في قلوب كل حاملي الأقلام الحرة ، وللأسف لان أدارة شؤون الدولة (العراقية) تم من قبل أصحاب كان قراراتهم اقسي من قرارات التنظيمات الإرهابية وعصابات القتل.. والخطف.. والتهجير؛ فحاصروا حرية الصحافة بقرارات وقوانين جائرة لتضييق الخناق عليهم وتقييدهم ليتم تكميم أفواه بوسائل أجهزة الدولة التي عملت على كبت الصحافة وإغلاق منافذ حرية الصحافة؛ ضاربي عرض الحائط؛ كل ما ورد في نصوص (الدستور العراقي)؛ الذي كفل حرية الرأي والتعبير، ليتم أحالت العديد من (الصحفيين العراقيين) إلى المحاكم لتحقيق واستجواب معهم في قضايا متعلقة بمواضيع تم نشروها في الصحافة المكتوبة أو تم التطرق إليها في برامج الإذاعة والتلفزه أو في وسائل التواصل الاجتماعي؛ ليتم في نهاية التحقيق إصدار قرارات بتغريم الصحفي أو الحبس أو منع نشر مواضيعهم أو العمل في الصحافة (العراقية) أو إسقاط الجنسية (العراقية) عنهم؛ كما حدث لعديد من الصحفيين (العراقيين) الأحرار؛ وهذه جريمة خطيرة لان فعلها يتناقض مع روح (الدستور العراقي) القائم على حرية الرأي والتعبير، لان مثل هكذا إجراءات تعسفية؛ ما هي إلا تهديد وردع لجميع الإعلاميين والصحافيين ليتوقفوا عن النشر، لأن حرية الصحافة يجب إن تكون كاملة وأي انتقاص هو إلغاء دورها في النقد؛ لان (النقد) الذي يطرح لأي موضوع؛ هو من اجل تصحيح مساره؛ وليس من اجل التدمير والهدم وانتقاص من شان الآخر؛ لان الخراب والتدمير الحقيقي يكمن بتكميم أفواه الصحفيين؛ لان من يكمم حرية الصحافة هو من يدمر الوطن ويفسح المجال للفاسدين وسراق ثروات البلاد وتدمير مؤسساتها الاقتصادية؛ ليتم خنق الوطن بخلق فوضى خلاقة، لان الجهات السياسية في الغالب هي التي تقوم بترهيب الصحفيين ليضعوا سلامة الصحفي مرهون بحجم ولائه للمتنفذي في إدارة الدولة؛ وفي عدم نقده أو الكشف عن خلل أو فساد يتعلق أمره بهذه الجهة أو تلك؛ وتجنب طرح مثل هكذا انتقادات والتغاضي عن ذلك؛ وعكسه فان الصحفي يعرض حياته إلى خطر القتل أو القمع أو الترهيب على حساب حرية الرأي، لان الأحزاب السياسية وميلشياتها المسلحة أصبحت اليوم تهيمن على غالبية (الصحف العراقية)؛ وأصبحت هي التي تمولها؛ ولهذا (حجم) دور الصحافة المستقلة في (العراق) لعدم وجود دعم حكومي لهم في ضل تراجع المبيعات والإعلانات والتمويل، لذلك أعلنت العديد من إدارات الصحف إفلاسها وتوقفت عن الإصدار؛ فيما اكتفت أخرى بالنشر الإلكتروني، بعد عجزها عن تأمين مرتبات العاملين فيها وبتكاليف الطباعة .
وكل هذه التحديات التي تواجهها (الصحافة العراقية) جعلت الصحافة التي تصدر في الداخل أسيرة للأحزاب والميلشيات المتمكنة التي تمولها، ليتم تحويلها إلى منابر لخدمة أجنداتها الخاصة لتصبح أجنحة سياسية للأحزاب والتي تستخدمها بين فترة وأخرى في حروب إعلامية، بل إن هذه الأحزاب قامت بوضع عقبات لا أول لها ولا أخر أمام (الصحف المستقلة) لإضعافها وإنهاء وجودها، وهذه التجاوزات على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية أصبحت للأسف ظاهرة في (العراق)، فلا يوجد (صحفي عراقي) في المطلق؛ لم يتعرض إلى التهديد أو تم رفع دعوة قضائية ضده – ومن ضمنهم صاحب المقال – ناهيك عن الذين تعرضوا لضرب والاهانة والاعتقال والتهديد أو من تعرض لإطلاق النار وتم تعويقه، وكل هذا يحدث في (العراق) لمجرد نشر خبر أو مقاله أو تصريح أطلقه الصحفي ونقله إلى الرأي العام، في وقت الذي لا يريد المعنيين في إدارة الحكم والسلطة تسليط الضوء على ذلك؛ لذلك هم اليوم يعملون بكل ما يتاح لهم من القوة والسلطة إلى تحجيم دور الصحفيين وبأي ثمن كان .
وفي ضل ما يشهده (العراق) اليوم من الأزمات السياسية وحملات استهداف الصحافيين؛ والتي راح ضحيتها العديد منهم؛ هو الأمر الذي جعل ينحسر دور الصحافة (العراقية)، ورغم ما تقوم به نقابات واتحادات الصحفية من دور لايجابي لإيجاد مخرج من هذه الأزمة التي تضرب الصحافة (العراقية) ولأكنها تصطدم بجدار أحزاب السلطة والميلشيات المسلحة وأجهزة الدولة والقوانين الجائرة التي تحد من حرية الصحافة؛ ومع انحسارها انحسرت آفاق حرية الرأي .
لذلك فان مستقبل الصحافة في أوضاع (العراق) اليوم على المحك؛ لان ما يحدث من تجاوز على القوانين والسعي إلى تحجيم حرية التعبير بكون الميلشيات والأحزاب السلطة المتنفذه تتحكم بقرارات السلطة التنفيذية بقمع الصحافة وتكميم الأفواه؛ وهذا يعني الرجوع إلى عصر الطغيان والاستبداد والتخلف بغياب تشريعات تحمي الصحافة والإعلام في (العراق) وعدم تفعيل دور ودعم نقابات واتحادات الصحفيين وإعطائها مساحة للمشاركة في تشريع فوانيين تخص الصحافة ويمنح لهم حرية الحركة لإجراء إصلاحات قانونية بما يتناسب مع أحداث العالم وتطور الواقع للدفاع عن الصحفيين وللحد من التجاوزات والاعتداءات التي تحدث بحقهم دون وجه الحق؛ وبما يتماشى مع حرية التعبير وقيام الصحافة بدورها الحقيقي كسلطة رابعة .