19 ديسمبر، 2024 12:57 ص

يقال أن من لبس السواد سبى العباد.. وفي تراثنا كثير من الأشعار يتغزل ناظمها بما يشير الى اللون الأسود.. كالعباءة والشعر والعيون، ففيها يزهو اللون الأسود جمالا وتأنقا وسحرا. مقابل هذا هناك من يتطير من هذا اللون، فهو دليل الحزن والهم والنكد.
الغراب.. طائر بلون الليل الحالك.. ذكره الكتاب فيما يكتبون والشعراء فيما ينظمون، حتى غدا محل شؤم يتطير منه كثير من الناس، ومما يحضر ذاكرتي الشطر الأول من بيت قاله الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة قال فيه:
إذا كان الغراب دليل قوم…
ومن المفارقة اللطيفة أن الشعراء وجمهور العوام راحوا ينظمون الشطر الثاني من البيت، كل وفق مايراه في مخيلته وحسب تراكمات مامر به من ظروف حياته، وفي حقيقة الأمر كان الصواب والتصويب ملازما لهم جميعا، وسأذكر مانظموه في التالي من سطوري.. قال الأول:
إذا كان الغراب دليل قوم
سيدلهم الى دار الخراب
وفي الرئيس الأسبق صدام حسين تجسيد لهذا البيت، فهو غني عن التعريف بنهجه وخططه وسياساته المتبعة، والتي أفضت الى خراب البلد شيئا فشيئا، إذ لم يسلم من قمعه المثقف والطالب والعامل والفلاح وربة البيت وحتى الطفل. وكم دعت أم ربها، وهز أب (شبابيچ) آل البيت طالبا شفاعتهم عند الله للخلاص منه، والإبقاء على أولادهم في مأمن من شرره المتطاير، وشروره التي لاتبقي ولاتذر. وقال الثاني:
إذا كان الغراب دليل قوم
يمر بهم على جيف الكلاب
وهذا ماحصل فعلا على طول الطريق الذي سيّر فيه البعثيون العراقيين، إذ مامن طريق شائك موحل وعر.. إلا أقحموهم فيه. وقال الثالث:
إذا كان الغراب دليل قوم
فلا فلحوا ولا فلح الغراب
وهو عين ماحدث لرأس النظام آنذاك، وكذلك البلد، فقد نأى الفلاح والصلاح عنهما طيلة حكمه وتسلطه على العراق. وكم حمدنا الله وشكرناه في نيسان 2003 يوم تحقق الأمل ولبي الدعاء وزال شر النظام وسقط الصنم، فكانت الحرية التي دخلت بلدنا في ذاك العام، دخولا لم يكن بمخيلة أحدنا انه سيكون بهذه السرعة والكيفية. وكما للأمر إيجابيات كانت له سلبيات رافقته بقصد مدروس من أشخاص ومنظمات، كانت لها أصول من ذاك النظام الذي خلنا أننا ودعناه عشية 9 نيسان 2003. وتغيرت الصورة حينها عن ماهية التحرير ولذة الاستمتاع بطعمه، لاسيما وقد شابته مع الاحتلال شوائب كثيرة، صفقت لها جهات مغرضة ودول غذتها بما يزيد الطين بلة، ويزيد النار إضراما واتقادا. وكانت الرؤوس المحشوة حقدا وغلا خير سلاح لها، تدسها بين الحين والآخر، وتحت ذريعة وأخرى، فكانت تحشد ماتمكنت من الأجساد العفنة المغسولة أدمغتها، لتنفيذ أجنداتها في تفجير كل مايمت بصلة الى كلمة العراق، فالشارع العراقي كان هدفها.. والمواطن العراقي كان مقصدها.. والمنشآت العراقية كانت غايتها، وبالتالي تصب كل هذه المعطيات في الهدف الأكبر وهو إلغاء دور العراق كبلد وشعب في المنطقة بل والعالم كذلك، وكأنها بهذا تكمل مابدأه نظام البعث منذ الثامن من شباط الغرابي، امتدادا بتسنم صدام موقع الصدارة في توليه الحكم.
اليوم وقد مرت سبع عشرة سنة على “الانقشاع المفترض” لسحب البعث السوداء من سماء العراق.. ومن الفترض أيضا ان غربان الشر تنقشع معها، إلا أن واقع الحال يعكس غير هذا، وأراني مجبرا على إكمال بيت لبيد بن ربيعة بما أراه جليا وواضحا في الساحة العراقية فأقول:
إذا كان الغراب دليل قوم
فعيب القوم لا عَيْبُ الغُرَابِ
[email protected]