قصديّة الاختيار
ليس من السهل أن تُختَصرهذه الرحلة ُالثريّة والعميقة ُلعوني كرومي في الحُلم والحريةِ والرؤى ،بعدد من الاستنتاجات التي قد يصل اليها الناقد،لان تجربة كرومي توفرت فيها العديدُ من الشروط الذاتية والموضوعية التي تضعها في موضع التقدير والاحتفاء ، ذلك لانه حاول لاكثر من اربعين عاماً أن يوقظ في الانسان لحظة َالتمرد ِعلى القهر ِوالاستلاب ِمُتسلحاً بفكر جدلي،من خلاله ِكانت تبدو رؤيته لطبيعة الصراعات القائمة في الحياة واضحة ً، وهذا ماأنعكس بطبيعة الحال في جميع أعماله التي كانت تختزن هذه الرؤية وتمررها، لذا لم يكن مسارنا ونحن نتنقل بين التفاصيل التي صاغها كرومي خاضعاً لسلطة الاحتفاء العاطفي الذي قد يخلط الاوراق من فرط الاعجاب والمحبة بقدرما كان إرتكازا ًعلى سلطة النقد في رؤية السياق العام للتجربة دون الحاجة للتوقف أمام كل عرض مسرحي قدمه كرومي ،ونهدف من وراء ذلك ايضا : اثارة الجدل حول تجربة فنان كبير ترك أثراً فنياً واضحاً في مسيرة المسرح المُنتَج في العراق خلال اكثرمن اربعة عقود، وما توصل اليه من حضور فني . كما شئنا أن تكون هذه القراءة مُنطلقا للبحث عن مشترك عام يجمع عوني كرومي مع أسماء ٍ أخرى من المخرجين العراقيين ، كانوا هم ايضا قد تلقوا تعليمهم العالي للفن المسرحي في جامعات أجنبية خارج العراق ولطالما اثيرت هذه المسألة بين أوساط المسرحيين لكنها لم تنتقل الى ميدان البحث العلمي والدراسات الاكاديمية التي فيما لو تمّت ستضيء بلاشك الكثيرمن الجوانب حول تجارب العديد من الفنانين وليس عوني كرومي لوحده ، وهي قضية تستحق التناول وفيها الكثير من الاشارات التي تصلح لان تكون فرضيات ومنطلقات بحثية .
الجيل ألأوّل
شهدت الظاهرة المسرحية في العراق بعد منتصف العقد الخامس من القرن العشرين ظهور عدد من الاسماء التي كانت قد دَرَست الفن المسرحي خارج العراق في عدد من الدول الاجنبية التي كان الفن والانتاج المسرحي فيها عريقاً ومتقدماً من حيث تنوع التجارب التي تُقدم فيها وفق اساليبَ ومناهج َمختلفة ٍ، مثل فرنسا والمانيا وانكلترا وايطاليا وروسيا اضافة الى أميركا . وقد شكّل مجىء الجيل الاول من الرواد ( جاسم العبودي وابراهيم جلال ، جعفر السعدي ، أسعد عبد الرزاق ، ابراهيم الخطيب) بداية الوعي بالعملية الاخراجية وفق أسس علمية ٍأكاديمية ٍ، بعيداً عن الارتجال والعفوية ، التي كانت قد شكلت الى حد كبير، مسيرة الانتاج المسرحي في العراق ، منذ انطلاقته ِمع أول ِعرض ٍمسرحي قدم عام 1880 في المدرسة الاكليركية التي اسسها الاباء الدومنيكان عام 1750 في مدينة الموصل . ومن هذه المدرسة وصلتنا أول النصوص المسرحية وتعود إلى الأب القس ( حنا حبش ) يعود تاريخ الانتهاء من كتابتها الى عام 1880 ، وضمت المسرحيات الاتية:
1- كوميديا آدم وحواء
2- كوميديا يوسف الحَسِن
3- كوميديا طوبيا
بعدها تم تأسيس (جمعية التمثيل العربي) من قبل محمد خالص الملا حمادي وهي أول فرقة مُجازة رسميا عام 1921 ، تبعتها بعد ذلك (الفرقة التمثيلية الوطنية ) التي اسسها الفنان حقي الشبلي عام 1927 ، والشبلي يعد مؤسس المسرح العراقي في العصر الحديث بأجماع المؤرخين .
إنّ رواد المسرح العراقي الاوائل في خمسينيات القرن الماضي وهم كل من : ابراهيم جلال ، جعفر السعدي ،جاسم العبودي ، اسعد عبد لرزاق ،ابراهيم الخطيب . والذين كانوا قد درسوا فنون وعلوم المسرح خارج العراق جاءوا بمفاهيم جديدة على الساحة المسرحية العراقية انذاك، كان لها صلة بتنوع الاساليب والرؤى الفنية ، التي يمكن للمخرج ان يأخذ بها ، وفقاً لما يراه ُهو في النص الذي يعمل عليه ، وهذا ماأحدث تحولا كبيراً في الفهم والتعامل مع ألعملية الاخراجية ، وباتت بعد ذلك تظهر نتائجُها واضحة ًفي مجمل الاعمال المسرحية التي تم تقديمها على خشبة المسرح العراقي، خصوصاً في العاصمة العراقية بغداد، التي إستحوذت على النصيب الاكبر في هذا التحول ، وقد أنعكس هذا فيما بعد على الاجيال الاخرى التي جاورت تلك الاسماء أوالتي عملت معها، أوالتي تتلمذت على يديها . إن ملامح هذا النضج بدت تتضح في فهم التجربة المسرحية بكل تفاصيلها وأبعادها لدى الاسماء التي جاءت بعد الجيل الاول ،وتمكن بعضها من أن يُشكل حضوراً واضحاً وفاعلية كبيرة في بناء مسيرة الانتاج المسرحي في العراق، وأخذت تتضح سماتهُ الشخصية في الاعمال التي يقدمها ،وأصبح بالامكان الحديث عن مسرح له بصمته ُالشخصية للاسم الفلاني يتميز به عن أقرانه، سواء من حيث الموضوعات أوالمعالجات الفنية والتي عكست في مُجملها العقائد والايدولوجيات التي كان المسرحيون يؤمنون بها،ويمكن هنا الاشارة الى ابرز الاسماء التي شكلت الاجيال التي جاءت مابعد الجيل الاول ، وأرتأينا ترتيبها حسب أسبقية ظهورهاعلى الساحة المسرحية وهم كل من : (بدري حسون فريد ، بهنام ميخائيل ، سامي عبد الحميد ، خليل شوقي) ومن ثم (قاسم محمد ، محسن العزاوي ،سعدون العبيدي ،جواد الاسدي ، ، صلاح القصب ، سليم الجزائري ، عوني كرومي ، فاضل خليل ،شفاء العمري ، عادل كريم ، وجدي العاني ، فخري العقيدي ، فتحي زين العابدين ) ثم (عزيز خيون، هاني هاني، شفيق المهدي ،عقيل مهدي ، محمود ابو العباس ) وبعدهم جاء ( ناجي كاش ،حميد صابر،غانم حميد ،حيدرمنعثر ،ناجي عبد الامير ،كاظم نصار،) ثم تتالت اسماء أخرى أعلنت عن حضورها على خشبة المسرح العراقي،لايتسع المجال هنا لذكرها .
المسرح المَلحَمي
الحديث عن عوني كرومي يقودنا بالضرورة التوقف عند المسرح الملحمي كما كان قد توصل اليه الكاتب المسرحي الالماني برتولد برخت بعد الربع الاول من القرن العشرين ، ويعود تاريخ ميلاد برخت الى 10 من شهر شباط / فبرايرعام 1898 ، وفي عام 1922 حصل برخت على جائزة كلايست عن أول أعماله المسرحية، وفي عام 1924ذهب إلى برلين ليعمل مخرجاً مسرحياً ، وفي عام 1933 وهو العام الذي إستولى فيه هتلر على السطة في ألمانيا، هرب برخت الى الدانمارك ومن هناك اتجه الى أميركا عام 1941، التي استقر فيها لاجئاً سياسياً ، وليحاكم عام 1947 من قبل لجنة مكارثي المناهضة للشيوعية ، ليعود بعدها إلى ألمانيا عام 1948، ليتولى إدارة المسرح الألماني في برلين الشرقية ، ثم أسس عام 1949 (فرقة مسرح برلين إنسامبل) وبقي يعمل فيها حتى وفاته في عام 1956.
المسرح الملحمي كما هو معروف لدى الدّارسين والمختصين لم يكن إلاّ خروجاً على القواعد الارسطية في بناء النص أولا ً والعرض المسرحي ثانياً . وكان الهدف منه اشراك المتلقي في القضيا المطروحة ودفعه لأن يتخذ موقفاً منها، من خلال هدم الجدارالرابع الذي يشكل حاجزالوهم القائم مابين الخشبة وصالة المتفرجين ليؤكد بذلك على أن مايعرض أمامه ماهو إلاّ لعبة مسرحية . كما طرح المسرح الملحمي مفهموم التغريب الذي تعود مرجعيته الى الشكلانيين الروس ومدرسة سيمياء براغ للمسرح الذين كانوا قد طرحوا نظرياتهم السيمائية في عشرينيات القرن الماضي، وكانت مدرسة براغ قد تبنت التصنيف الوظائفي لفعل التواصل اللغوي الذي وضعه (كارل بوهلر) والذي حدده بثلاث وظائف :
1-الوظيفة التعبيرية
2- الوظيفة المناشِدة
3- الوظيفة التمثيلية
ثم اضيفت بعدها الوظيفة الجمالية ، وهي موجَهةٌ نحو فنيَّةِ أو جمالية ِألرسالةِ بذاتِها ولذاتِها 1. وبات على هذا الاساس أن يتم تقسيم النص وقراءته نقدياً الى وحدات حسب وظيفتها التواصلية . والتغريبْ ، كما يقول جيفري ليج هو ” تصدير واع ٍ وخلّاق للغة ومعانيها ، والتصديرُ يعني إستثمار اللغة جمالياً لإحداث مؤثرات خاصة تتصدر وعي المتلقي ، والبنية المُتصَدِرةُ تتسم عادة بالانحراف والتكرار، والانحراف هو خروج ٌعلى الاعراف القواعدية والتركيبية والمعنوية للغة القياسية لابداع صور ٍ مَجازية تُفاجىء المتلقي وتستحوذ على انتباهه ” 2 . . خاصية التصديرالمنبثقة عن مفهوم التغريب لم يقتصر أمرها على اللغة بل شملت ضمن بحوث مدرسة براغ جميع الفنون ، وقد أسهم برخت في تقنين المصطلح مسرحياً، ليتمكن من إستثماره والتعبيرعنه في عروضه المسرحية .
بات مفهوم التغريب فيما بعد عنصرا ًأساسيا ً في بناء المسرح الملحمي ، إذ لجأ برخت ضمن هذا المفهوم على تحويل الشيء إلى شيء خاص ، لكي يحقق مقصده الفني في تحقيق الغرابة والغموض والدهشة لدى المتلقي . وقد عمل بريخت على مفهوم التغريب بعد أن تأمل عناصر متفرقة في مناطق مختلفة من العالم خاصة في قارة أسيا ، فانتبه الى المسرح الشرقي سواء في في اليابان أوالصين أوالهند ، ليشكل فيما بعد من دلالات مسارح هذه الحضارات العريقة ، جملة من العناصرالفنية التي دخلت في صلب المسرح الملحمي .
كانت دعوة برشت إعلاناً لقطيعة فنية وفكرية مع الارث الارسطي ، ليتخلى بذلك المسرح الملحمي عن وحدة الزمان والمكان والحدث ، مجتازاً بذلك الوحدات البنائية التي يتموضع فيها النص الارسطي من : استهلال وعقدة وذروة ثم حل ٍ، ليصل الى بناء نص آخر، لاصلة له بالتعاليم الارسطوية ، إعتماداً على جملة إجراءات فنية قام بها بريخت أوصلته بالتالي الى تفتيت وحدة الزمان والمكان والاخذ بها منفصلة الى وحدات ، ترتبط مع بعضها وفقاً للمنطق الجدلي، الذي تبنى عليه وحدات الاحداث المتفرقة داخل النص ليتواشج في النص اجناساً عدة : اغنية ووثيقة وعرضاً سينمائياً ، ورقصات . ليصبح بالتالي مفتوحاً على سعته لاستقبال كل مايمكن ان يحقق كشف اللعبة المسرحية لتعميق وعي المتلقي بحقيقة التناقضات القائمة في الواقع وليس تظليله كما يريد له المسرح القائم على البناء الارسطي .
عوني كرومي ، صراعُ مع الأُطر المُسبَّقة
فيما يتعلق بالمخرج عوني كرومي ، نجد أن تجربة هذا المسرحي، تستحق الوقوف عندها وتأملها ، نظرا ً لِما شَغله من مساحة مهمة في الحركة المسرحية العراقية ، فبعد أن كان قد أنهى عوني كرومي دراسته الاكاديمية للاخراج المسرحي في المانيا ونال بموجبها شهادة الدكتوراه عاد الى العراق في منتصف سبعينات القرن الماضي وأستمرّ بالعمل المسرحي الى جانب التدريس في كلية الفنون الجميلة حتى مغادرته العراق في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين متجهاً الى الاردن ليعمل أستاذاً في جامعة اليرموك لعدة أعوام ومن ثم الانتقال الى المانيا والاستقرارفيها حتى يوم وفاته وفاته في 26/ 5 /2006 أثناء تقديم العرض المسرحي( مسافر ليل ) للكاتب المصري صلاح عبد الصبور عن عمر ناهز الواحد والستين.
من أبرز أعماله التي وصلت حدود سبعين عرضاً مسرحياً : كشخة ونفخة، ترنيمة الكرسي الهزاز، فطور الساعة الثامنة، كاليكَولا،غاليلو غاليليه، مأساة تموز، فوق رصيف الرفض، قصائد روفائيل ألبرتي ، مس جوليا ، الإنسان الطيب،صراخ الصمت الأخرس ، بير وشناشيل، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، الطائر الأزرق ،السيد والعبد، مسافر ليل .
والدكتور كرومي ولد في مدينة الموصل عام 1945 وتخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1969 ثم سافرالى المانيـــــــــــا لإكمال دراسته هناك ، وحصل على شهادتي الماجستيروالدكتوراه من جامعة همبولدت عام 1976بتخصص دقيق في العلوم المسرحية.
كانت مسيرته الفنية تعبيراً واضحاً عن تطلعاته وطموحاته الفنية وفقاً لنظرية المسرح الملحمي التي لم تخرج عن توظيف الفن المسرحي من أجل القضايا الانسانية في ظل الظروف والاوضاع القاهرة المُسلطة على الانسان في بيئة ما ، لتحيله بالتالي الى كائن مُستلب في ظل أوضاع مجتمعية تحكمها قوانين الصراع الطبقي .
بقي كرومي طيلة مسيرته الفنية ماركسياً حد النخاع في عقيدته الايدولوجية وانعكس ذلك في اختياراته للنصوص التي قدمها على خشبة المسرح ، سواء التي كانت نصوصاً مترجمة أو التي كانت تحمل تواقيع مؤلفين عراقيين .
وجميع النصوص كانت تخضع للاشتراطات الفنية البريختية المسبّقة والتي كانت بمثابة مِجس يبدأ من خلالها بتشريح الاحداث والشخوص ومنظومة العلاقات المتصارعة ليعيد تركيبها وفقاً لتعاليم الاب الروحي برتولد بريخت .
هذا الانزواء وراء ظِل ِّ الاستاذ وتعاليمه ِكان واضحاً جداً في مسيرة كرومي ،الى الحد الذي أفقده طريقه الخاص الى حدٍ ما ، والذي كان ينبغي أن يرسمه لنفسه بعيداً عن القالب الفني الذي إستله من تجارب ووصايا بريخت التي شرِبها وتمثّلها . وأسَرَ قدراته فيها .
وفقاً لهذا الايمان الذي كان عليه كرومي بكل ماهو بريختي يمكننا ملاحظة طبيعة النصوص التي كان قد اختارها للعمل عليها وتقديمها ، منها على سبيل المثال: غاليلو غاليليه ، كريولانس ، ورؤى سيمون مشار، كل هذه النصوص التي اشرنا اليها كانت للمؤلف بريخت تم تقديمها وفق ماجاءت عليه مكتوبة بخصوصيتها الملحمية في البناء والرؤية الفنية دون أن يذهب بها بعيداً عن هذا الاطار الفني الذي أراده لها المؤلف، ومن غير أن يجري عليها تعديلات وفقاً لمقتضيات البيئة المحلية العراقية التي كانت تقدم فيها،حتى أن مسرحية (الانسان الطيب في ستسوان) التي كان قد عرضها في مهرجان المسرح العربي عام 1992 تحت عنوان (الانسان الطيب ) والتي كانت ايضا للكاتب بريخت إقتصر التعديل فيها على حذف كلمة (ستسوان) من العنوان كما تم استخدام اللهجة العراقية بديلا عن اللغة العربية الفصحى . كان ذلك إجراءً جزئياً لايكفي للدخول بفاعلية في جوهر المعالجة الذاتية للفنان عندما يُقدم على تناول نص جاهزلم يكتبهُ هو .
لانَّ اللغة في التجربة المسرحية لاتشكل العنصرالاساس التي تقوم عليها، بل هي الاضعف حضوراً وتأثيراً في بناء العرض المسرحي المعاصر، الذي يتشكل معماره من منظومة سمعية وبصرية يُمسك المخرج بمفرداتهما المتنوعة والمختلفة ليخلق منها نسيجاً سينوكرافياً يؤثث به الفضاء المسرحي . ولكن هذا لايعني مطلقاً أن عوني كرومي لم يتعامل مع نصوص تعود لكتاب اخرين ، الى جانب نصوص بريخت ، إذ قدم عددا من الاعمال المسرحية التي توزعت على عدد محدود جداً من الكتاب العراقيين مثل فاروق محمد،وعباس الحربي ومحي الدين زنكة وكتاباً اخرين غيرعراقيين مثل : صلاح عبد الصبور،روفائيل البرتي ، البير كامو .
تساؤلات
إن الفترة التي درس فيها عوني كرومي الاخراج المسرحي في المانيا كانت التجارب المسرحية في العالم قد وصلت فيها الى مرحلة مهمة من التحولات وضعت المخرج المسرحي امام مساحة واسعة من الحرية في التفكير الفني بعيداً عن هيمنة الاعراف والتقاليد الفنية مهما كان شكلها ومصدرها وتاريخ انتاجها ، وبات المبدع المسرحي لايستجيب الاّ لصوت التجديد والانقطاع عما سبق من معرفة فنية ، وهذا ماكان عليه برخت نفسه عندما تجاوز الصيغة البنائية للمسرح الارسطي، وهكذا الحال مع غروتوفسكي وبروك وكانتور واخرين كانوا في تلك الفترة يقفون في مقدمة الخارجين من كاهل المقاييس المنجزة .
والسؤال هنا : لماذاتخلى عوني كرومي عن هذا الدورالذي بات على المخرج أن يقترن به بعد سلسلة من التحولات التي كانت قد حصلت في طبيعة ومفهوم الاخراج المسرحي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ترتب عليها جملة من الاجراءات التنظيرية التي تتيح له بل تفرض عليه أن يكون لاعباً حرا ً في المساحة التي يريد والشكل الذي يقصد وفقاً لتجربته الخاصة والمعرفة التي يمتلكها .
سأتوقف هنا لاتساءل عن الكيفية التي ظهرت بها الاعمال التي لم تكن تحمل أسم وتوقيع بريخت،ويمكن أعتبارها أختبارا ً له ولقدراته الاخراجية، وهو يقف وحيداً أمام الخشبة مع نص مسرحي لكاتب آخر، من دون أن تكون كلماتُ ومعالجاتُ عرابه ِالروحي بين يديه .
فهل تمكن من الوصول الى عمق التجربة المسرحية أم بقي على ضفتيها ؟
إن ماأشير اليه في هذه القضية ،ينطبق ايضا على العديد من الاسماء التي كانت قد تلقت هي الاخرى تعليمها الاكاديمي خارج العراق، ولمّا عادت الى الوطن، قدمت نصوصاً عالمية سبق أن تم تقديمها عشرات المرات في البلدان التي كانوا قد درسوا فيها وبأساليب ومناهج فنية مختلفة ، مثل نصوص شكسبير وبريخت على سبيل المثال وبلاشك كانوا قد شاهدوها .
في مثل هذه التجارب المسرحية أجد من الصعب الوصول الى حكم نقدي سليم ينصف التجربة ويضعها في إطارها النقدي الذي يَلم ُّ بخواصّها وحدودها وبما يمكن أن وصلت اليه من مقولات فنية وذلك لحضورالتنّاص بشكل مُهيمن داخلها في سياق الاجراءات التي لجأ اليها أولئك الفنانون ، وقد يكون حضورهذا التنصيص غير مقصود ٍ أو جاء متسللاًعبر ما خزنته الذاكرة في دهاليز اللاوعي منها، نتيجة مشاهدات ٍ لعروض مسرحية إستندت على تلك النصوص نفسِها والتي اشتغل عليها المخرج العراقي فيما بعد، أو نتيجة قراءات ٍنقدية ٍكثيرة ٍكانت قد تناولتها .
تبدو هذه الاشكالية ُواضحة ُفي العديد من تجارب المخرجين العراقيين الذين درسوا خارج العراق، خصوصا في الدول الاجنبية المعروفة ِبعراقةِ مسارِحها ،مثل المانيا التي درس فيها عوني كرومي ، وشاهد فيها العشرات من العروض المسرحية التي تناولت نصوصا لبرتولد بريخت مثل مسرحية غاليلو، وكريولانس ، ورؤى سيمون مشار والتي تناولها هو فيما بعد عندما عاد الى العراق .
قراءة في الاشتغالات
من خلال إجراء مقابلة نقدية مابين عروضه ِالمسرحية التي أعتمدت على نصوص ِالكاتب بريخت والعروض الاخرى التي كانت لكتاب عراقيين لم تكن قد حظيت نصوصهم بماحظيت به نصوص بريخت أو شكسبيرمن فرص التقديم الكثيرة على خشبات المسارح لأكثر من مرة وبأكثرِ من بلد ٍ ولغة ٍ. أجدني هنا مُستنتجاً الاتي : –
إن عروضَه المسرحية التي أستندت على نصوص ٍعراقية ٍ لم تكن بالمستوى الفني المتقدم الذي كانت عليه العروض التي استندت على نصوص بريخت وسبق لها أن قُدمت من قبل مخرجين أخرين ــ كما اشرت سابقاً ــ عشرات المرات ، وكان هو قد شاهد بنفسه العديد منها في اكثر من نسخة وفي اكثر من بلد بأستثناء العرض المسرحي المعنون ” ترنيمة الكرسي الهزاز ” للمؤلف العراقي فاروق محمد .
ترنيمة الكرسي الهزاز
إنَّ ماساعد على نجاح هذا العرض المسرحي وأن يُحقق ذاك التأثير العاطفي والانساني على المتلقي قبل الجانب الجمالي منه ، يعود الى أمرٍ لاصلة له بشكل مباشر بالجانب الفني للعرض ذاته،بقدر ماكان الامرمتعلقاً، بطبيعة التركيبة النفسية المُحطّمة للمتلقي العراقي انذاك،بفعل مقتضيات الظرف التاريخي الذي كان يحيط بالعراقيين جميعاً، بسبب الحرب .
إّذ كانت الحروب قد أخذت الكثير من أحلام العراقيين وسحقت نفوسهم، بتوالي أرقام القتلى والمفقودين واليتامى والارامل والعوانس .
كانت الحرب حاضرة بكل دمويتها وبشاعتها وماتركته من ظلال قاتمة على الذات الانسانية وعلى المجتمع ولايمكن للجمهورالحاضر للعرض المسرحي آنذاك أن يتجاهلها أويغفل عنها طالما هي مازالت تلهو بحياته . وهاهي تتجسد أمامه عابثة بشخصيتين نسائيتين شاء عوني أن يَخرُج َبهما من إطار المعمار التقليدي لخشبة المسرح، مُزحزِحاً بذلك دلالات المكان الحميم الذي اقيم فيه العرض الى مدلولات اخرى لها صلة بالحرب وفظاعاتها على النفس الانسانية .
لم يكن المكان الذي قدم فيه العرض سوى بيت عراقي ذي طراز شرقي ٍ باذخ ٍبألفته ِ وفضاءاته ِ المفتوحة على دجلة والشمس والهواءعَبَر فناءه ِالواسع المُنفتِح على السماء والمُحاط َبغرف ٍ ونوافذَ وسلالم َحجرية ٍ تم استثمارها مسرحياً لتصعد من خلالها الشخصيتان النسائيتان الرئيسيتان الى الطابق الثاني من المبنى الذي تم استثماره هو الاخرليلقي بحضوره المعماري على الاشكاليات المُعقّدة والمؤلمة التي فرضتها الحرب على شخصيتي العرض .
كان هذا الاستثمارُ الفنيُ لمعمارية ِالمكان قد أحدث تداخلاً وجدانيا مابين المتلقين للعرض ومايُعرض أمامهم ، كما أحدث تياراً جارفاً من الاطمئنان، يشبه ذاك الذي ينبعث لدى الانسان الشرقي وهو يدخل الى فناء بيته بعد رحلة من العذاب والقهر والاستغلال خارجَه ُ.
يمكننا القول إن هذا العرض قد إمتلك شروط تألقه ونجاحه الكبير من خلال المكان الذي عُرض فيه . مكانٌ فاجأ المُتلقي وأدخَله في ألفة ٍ يتوق اليها ، وأخرَجَه منها في آن ٍواحد،عندما طرح عليه تلك المواجِعَ مُنثالة ً في تفاصيله ِ وكأنَّها جزء منه .
وبات هذا العرض وفق ماجاء عليه من خصوصية معمارية تأطّرَ حضورهُ فيها خارج السياق البرختي الذي كان قد أخذنا به عوني كرومي في مجمل أعماله السابقة . ويمكن تأكيد ماذهبنا اليه عندما نستذكر مسرحية (بير وشناشيل ) للكاتب عباس الحربي والتي قدمها عوني قبل هذا العرض بعدة أعوام على خشبة مسرح تقليدي أي مايطلق عليه أصطلاحاً (مسرح العُلبة ) ، ورغم أن النص كانت عائديته لكاتب عراقي إلاّ أن العرض مَرَّ مروراً عابراً في ذاكرة المتلقي ولم يترك أثراً جمالياً مهماً كما كانت عليه أعماله الاخرى التي سبقته والتي كانت بتوقيع برخت كمؤلف لها .
إستنتاجات
عليه نخلصُ الى مايلي : أنّ تجربة عوني كرومي يمكننا تقسيمَها الى مرحلتين ، اعتماداً على النصوص التي تعامل معها ، المرحلة الاولى : ويمكن تسميتها ( البرختية) ، وكانت نشأتُها وحضورها قائمة على نصوص برخت وتأثيرات العروض الاجنبية المُستنِدة على تلك النصوص ،وهنا يبدو عوني كرومي في مشروعه المسرحي منجِذباً أكثر مما هو جاذباً ، مختفياً اكثر مما هو مُعلنَاً ، غائباً اكثر مما هو حاضراً ، ممتزجاً أكثر مماهو منفصلاً . لأن أيّة تجربة فنية يُقدِم عليها الفنان ينبغي أن تقوم على فكرة التحرُّر . التحرُّر من الشكل المُسبَّق ، من هيمنَته ِ، وليس إعادةُ انتاجهِ وتكراره ِ، فالشكل في هذه المرحلة من تجربة عوني كان اداة ً مُقننة ًوموجَهة ًللسيطرة على حريته ِ وتكمِيمِيها وفق قياسات ٍجاهزة ٍ.
المرحلة الثانية : ويمكن تسميتها (المرحلة العراقية ) ، وكانت اكثر تحرراً من سابقتها ، تعامل فيها عوني مع المُعطى وفق آلية الملاحظة والتجريب ، وصولا الى لحظة التحرر من فروضات المسرح الملحمي وإخضاع التجربة لمنطق الحرية لكي تفرض مقولاتها الشكلية كما تجلت في أنضج صورة لها في العرض المسرحي ( الكرسي الهزاز) وهذه المرحلة كانت التحول الاهم في مسيرة عوني ، تخلص فيها من تبعة القوالب الجاهزة التي كانت تمسك به، فوجد ذاته الفنية تستمد حضورها من التجربة الميدانية .
الهوامش :
1- سيميائية براغ للمسرح ، دراسات سيميائية – عدد من المؤلفين – ترجمة وتقديم أومير كورية – منشورات وزارة الثقافة السورية – دمشق 1977
2- المصدر السابق .
3- المسرح بين الفن والفكر – د. صليحة – مشروع النشر المشترك – دار الشؤون الثقافية العامة ( آفاق عربية ) – بغداد
4- ( النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هور كهايمر الى اكسل هونيث ) د. كمال بومنير – الدار العربية للعلوم ناشرون .