استوقفتنا كلمات الرئيس الاوغندي يوسف موسيفيني خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ، (الذي قام بجولة افريقية للفترة من24-28 يوليو الجاري ، بدأت في مصر ومرت في الكونغو واوغندا وانتهت عند اثيوبيا )، أن “بلاده غفرت للمستعمرين الذين استعبدوها، فكيف تقف ضد روسيا التي ساعدتها؟ ، وكيف يمكننا أن نقف ضد الذين لم يلحقوا بنا أي أذى بل على العكس ساعدونا؟” ، كلمات لا تنم إلا عن الوفاء ورد الدين لما ما قدمه الاتحاد السوفيتي ومن بعدها روسيا ، للقارة السمراء على مر تاريخها ، وهي كلمات تنم أيضا عن رأي بقية الدول الافريقية التي اتخذت رسميا ، موقفا محايدا من الصراع الأوكراني في مارس / آذار ، في الجمعية العامة للأمم المتحدة التصويت على قرار يدين العملية العسكرية الروسية ، يطالب بوقف فوري للأعمال العدائية ، ولم تدعم الكونغو وأوغندا وإثيوبيا الوثيقة .
وهنا نستذكر الكاتب السوفيتي كورني تشوكوفسكي ، فبعد أن كتب قصته الخيالية “بارمالي” في عام 1925 ، حيث ألقى “تعويذة” ( لا تذهبوا ، يا أطفال ، للسير في أفريقيا! ) على تفكير الطبقة السياسية آنذاك ولمدة قرن تقريبًا ، ففي عهد خروتشوف و بريجنيف ، كان الاتحاد السوفيتي “يمشي” بنشاط في إفريقيا ، ومع ذلك ، تبين أن نتائج تلك “المسيرة الطويلة” غامضة للغاية لدرجة أنه حتى على خلفية الانفصال عن الغرب ، فإن القارة السوداء لا تزال “غير مرئية” لجزء كبير من النخبة الروسية ، لكن ذلك وكما تقول العضو المراسل في الأكاديمية الروسية للعلوم إيرينا أبراموفا ، لا ينطبق على فلاديمير بوتين ، الذي يعمل بنشاط في الاتجاه الأفريقي منذ فترة طويلة ، إيمانا منه من أن بقاء روسيا كقوة عظمى يعتمد إلى حد كبير على فعالية سياسة موسكو الأفريقية.
ومنذ عدة سنوات والرئيس فلاديمير بوتين يتحدث عن الحاجة إلى زيادة الصادرات غير السلعية وغير المتعلقة بالطاقة ورفعها إلى 250 مليار دولار سنويًا ، إلى جانب أفريقيا ، حيث تبلغ حصة الصادرات غير السلعية وغير المتعلقة بالطاقة 85-87٪ ، من منتجات الهندسة الميكانيكية ، الصناعة الكيميائية ، الزراعة ، وكذلك الأسمدة وغيرها من السلع – والمطلوبة في إفريقيا ، وحتى الآن ، في إفريقيا ، يتم استغلال سيارة مثل UAZ ، ناهيك عن KamAZ ، بنجاح كبير ، وفي وقت واحد قامت روسيا ببناء 300 مؤسسة صناعية في أفريقيا ، التي تركز على التقنيات الروسية ، وأنه تم إطلاق برامج مشتركة مع بعض الدول تتضمن استخدام أموال الديون لتمويل مشاريع وطنية ، وأن العديد من الشركات الروسية تعمل بنجاح مع شركاء من مختلف قطاعات الاقتصاد الأفريقي لفترة طويلة وهي مصممة على زيادة وجودها في إفريقيا. بالطبع، سندعم مثل هذه الخطط على مستوى الدولة”.
وزيارة الخمسة أيام التي قضاها الوزير لافروف متنقلا بين عواصم الدول الافريقية الأربعة في مقدمتها مصر التي تعتبرها روسيا الشريك التجاري الأكبر لها في إفريقيا ، ففي نهاية عام 2021 ، بلغ حجم التبادل التجاري بين الدول 4.8 مليار دولار ، كما تعمل 470 شركة روسية في السوق المصري ، بلغت استثماراتها نحو 8 مليارات دولار، وقبل أيام قليلة من زيارة سيرغي لافروف للقاهرة ، أقيم حفل صب الخرسانة في موقع بناء محطة الطاقة النووية ، فان تلك الجولة لم تتركز فقط على لقاء نظراءه في تلك الدول ولقاء رؤساءها، بل تمكنه أيضًا من التواصل مع ممثلي جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي.
كما أن الجولة الدبلوماسية الروسية ، تمت مباشرة بعد التوقيع في اسطنبول على وثائق حول مساعدة روسيا في تصدير الحبوب الأوكرانية ورفع القيود المفروضة على توريد المنتجات الزراعية الروسية للتصدير ، رافقتها حملة مسعورة في واشنطن وبروكسل ، وباريس ، ويواصلون الحديث عن تعزيز دور روسيا والصين في إفريقيا ويحاولون كسب دول القارة إلى جانبهم ، بما في ذلك إقناع موسكو بمسؤولية الأزمات في الطاقة والغذاء ، وكرر خلالها الوزير لافروف ، مرارًا وتكرارًا أنه لم يكن هناك خطأ روسي في خلق أزمة الغذاء ، وكذلك في رفع أسعار الطاقة ، ولكن كان ذلك بسبب سوء تقدير الغرب في تنفيذ سياستها الاقتصادية.
لقد سبقت الزيارة الاجتماع الوزاري لمجموعة العشرين ، وأظهر المشاركون فيه إرتباك حول من قاطع من في أفريقيا ، فبالنسبة لواشنطن ، أصبح تكثيف الاتصالات الروسية مع الدول الأفريقية مسألة تتعلق بالأمن القومي ، وبالعودة إلى أواخر أبريل ، وافق مجلس النواب بالكونجرس الأمريكي على مشروع قانون “بشأن مكافحة الأنشطة الخبيثة لروسيا في إفريقيا” ، والوثيقة قيد النظر حاليا من قبل مجلس الشيوخ ، ومتى سيتم اعتماده لا يزال غير واضح ، لكن في الأسبوع الماضي ، طلب أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي في جلسة استماع للجنة القوات المسلحة من اللفتنانت جنرال في مشاة البحرية مايكل لانجلي ، الذي يجري النظر في توليه منصب قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا ، أن يوضح كيف سيحاول مواجهة تحركات موسكو ، في حين أعرب أعضاء مجلس الشيوخ عن قلقهم من أن “نفوذ روسيا المتزايد في القارة يمكن أن يخرج الولايات المتحدة من قطاع التعدين الغني في إفريقيا” .
أما فرنسا ، فقد أوفدت رئيسها مانويل ماكرون في زيارة الى افريقيا تزامنت مع زيارة الوزير لافروف ، وجاءت في وقت تراجع فيه نفوذ فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، في إفريقيا أمام الصين والهند وألمانيا، لا سيما في القطاعين الاقتصادي والتجاري ، وشملت 3 دول ، ( الكاميرون ، التي دعا تجمع أحزاب سياسية فيها الرئيس الفرنسي الى الاعتراف بـ”جرائم فرنسا الاستعمارية”، قبل ساعات من زيارته للبلاد ، ) بالإضافة الى زيارة بنين ، التي واجهت هجمات دامية من جهاديين تسللوا من منطقة الساحل إلى دول خليج غينيا، واختتم جولته في غينيا بيساو التي تمزقها الأزمات السياسية ) ، وذلك في إطار سعيه لإعادة إحياء علاقة فرنسا مع القارة السمراء في حقبة ما بعد الاستعمار ، ليؤكد أن بلاده “لن تتخلى عن أمن القارة الإفريقية”، مكررًا رغبته في “إعادة ابتكار” الجهاز العسكري والأمني الفرنسي خصوصا في منطقة الساحل ، ، بالإضافة الى تحذير شعوب إفريقيا من مغبة ما أسماه “بالانخداع بالتعاون مع روسيا”.
كما كان هناك قلق بشأن نجاح روسيا الأخير في حشد الدعم بين القادة الأفارقة ضد العقوبات الغربية ، ويشير هذا ، على وجه الخصوص ، إلى رحلة رئيس السنغال ورئيس الاتحاد الأفريقي ، ماكي سال ، إلى موسكو في أوائل يونيو ، الذي دعا بعد نتائج المفاوضات مع فلاديمير بوتين ، الدول الغربية إلى رفع القيود المفروضة على المنتجات الزراعية الروسية ، بما في ذلك الحبوب ، ومثل هذا الموقف لا يناسب واشنطن ، وقال السناتور تيم كين خلال جلسة الاستماع ، “يؤلمني أن أرى كيف يقبل القادة الأفارقة المعلومات الخاطئة حول أسباب انتشار وباء الجوع في إفريقيا” ، وأضاف أن على السياسيين الأمريكيين بذل المزيد من الجهد “لكسب حرب الروايات” ، ووعد الجنرال لانجلي أن يفعل كل ما في وسعه في هذا الاتجاه ، ومع ذلك ، حتى الآن عدد كبير من الدول الأفريقية ليست في عجلة من أمرها لقبول وجهة نظر واشنطن.
إن تواجد وزير الخارجية الروسي في أفريقيا ، ولقاءاته مع مسئولي الدول الأربعة ، كشفت رغبة روسية جادة لفتح حوار جدي مع الدول الافريقية التي أبدت استعدادها للتحدث مع روسيا والتعاون معها ، فالسنوات القليلة الماضية اثبت الدول الأفريقية أهتمامها بالتعاون مع روسيا ، بغض النظر عن نوع العلاقة بين روسيا وأوروبا أو روسيا والولايات المتحدة ، كما طمأن الوزير لافروف ممثلي الدول الأفريقية بأن قصة تصدير الحبوب الروسية والأوكرانية ، قد تم حلها بشكل إيجابي ، وإن مشكلة الجوع التي يتحدث عنها الكثيرون ، خاصة في سياق الجوع في أفقر البلدان في أفريقيا ، لم تعد مشكلة ، وهدف آخر كما يشير له المراقبون السياسيون الروس ، وهي قضية استخراج ومعالجة الاحتياطيات الأفريقية ، حيث لا يزال يُنظر إلى البلدان الأفريقية على أنها مورِّد للموارد ، لكن مواردها تحتاج إلى التنقيب عن المعادن ومعالجتها ، وتمنح البلدان الأفريقية الحق في استخراج الموارد ومعالجتها إلى دول أخرى مستعدة لدفع ثمنها بأي شكل من الأشكال ، وتاريخيا ، كانت هذه دول أوروبا الغربية ، لكن الوضع يتغير الآن ، كما تريد روسيا أن تلعب دورها ، وهذا ما صرح به لافروف خلال هذه الاجتماعات ، بالإضافة إلى قضية الموارد ، فإن الاستثمار في البنية التحتية من القضايا التي لا تقل أهمية بالنسبة للبلدان الأفريقية ، وأنه على الرغم من حقيقة أن روسيا في قبضة العقوبات الاقتصادية الصعبة ، فإن الدول الأفريقية تنتظر الاستثمار في البنية التحتية أو المشاريع المشتركة.
ان السوق الروسية في البلاد التي يبلغ عدد سكانها 146 مليون نسمة محدودة للغاية، وإذا أرادت أن تصبح قوة عظمى، من وجهة نظر الخبراء الروس، فإنها بحاجة إلى الوصول إلى أسواق جديدة سريعة النمو ، لأنه لم تعد الهند والصين الآن أسواقًا لصادراتها الغير سلعية وغير المتعلقة بالطاقة ، فإلى أين يمكن الذهاب بالتقنيات الروسية ، بالتأكيد الى افريقيا! فقد عمل الصينيون في وقت من الأوقات على جميع تقنياتهم هناك، ويقول الأفارقة أيضًا، ” لسنا بحاجة للتجارة والتمويل من روسيا ، نحن بحاجة إلى تكنولوجيا من روسيا” ، ويريدون استخدام تقنياتها لتطوير صناعاتهم الخاصة ، وبالطبع ، إفريقيا باتت اليوم مهمة جدًا بالنسبة لروسيا من وجهة النظر السياسية أيضا ، فقد صوتت 28 دولة أفريقية لصالح القرار الأمريكي بشأن أوكرانيا ، وان قالوا لروسيا جميعًا لاحقًا: ” لا تهتموا ، لقد ضغطوا علينا ، أجبرنا على ذلك” ! لكن هذا – وحقيقة أن البلدان الأفريقية لم تنضم إلى العقوبات الغربية – ليس سببًا لعدم الالتفات إلى العمل النشط للغرب في إفريقيا، حيث تعمل الدول الغربية بنشاط كبير مع كينيا وجنوب إفريقيا من أجل تضمين الدول الأفريقية في نظامها الأمني، وسيكون على روسيا بناء دفاعها ليس فقط في الاتجاه الغربي، فهناك موانئ وإمكانية إقامة قواعد عسكرية وغواصات، ففي بلد صغير مثل جيبوتي ، يتواجد فيها ثماني قواعد عسكرية لدول مختلفة ، حتى الصينيون يبنون الآن قاعدتهم العسكرية هناك.
وتتراوح قيمة المساعدة التي يقدمها الغرب بين 40-45 مليار دولار سنويا ، لكن في الوقت نفسه ، يتم سحب 70 مليار دولار سنويًا من القارة إلى الغرب ، لذلك نرى إن الميزان العام لا يزال في غير صالح إفريقيا ، ومازال الغرب الآن ينتهج سياسة الاستعمار الجديد تجاه إفريقيا ، وفرض القواعد التي بموجبها تكون الدولة بشكل أساسي موردًا للمواد الخام النادرة للأسواق المتقدمة وفي نفس الوقت مستوردًا للمنتجات عالية التقنية النهائية من هذه الأسواق ، في حين تحتل الصين كل تلك المنافذ التي تخلى عنها الاتحاد السوفيتي ، وتمتلك الصين 100 مليار استثمار متراكم في إفريقيا وتبلغ مبيعاتها التجارية السنوية حوالي 200 مليار (كان لدى روسيا ما يزيد قليلاً عن 17 مليارًا في عام 2021) ، لكن العلاقة بين الصين وأفريقيا لها خصائصها الخاصة ، حتى أن الكثيرين يقولون إن هذا شكل جديد من أشكال الاستعمار، والصين التي تركز بشكل أكبر على شرق وجنوب إفريقيا مهتمة بالقطاع المصرفي ، وأنشأوا مركزًا مصرفيًا في كينيا ، وأنشأوا بنوكًا للتصدير والاستيراد ، وفروعًا للبنوك الصينية ، ونقلوا التسويات مع الأفارقة بالفعل إلى اليوان ، ودفع الدولار واليورو، كما أنهم مهتمون أيضًا بتعدين اليورانيوم في شرق إفريقيا والأتربة النادرة في جنوب إفريقيا.
ورأت وسائل الإعلام الغربية في جولة وزير الخارجية الروسي رغبة روسية في إيجاد حلفاء ، فمثلا وصفت صحيفة الغارديان البريطانية إفريقيا بأنها “جبهة أخرى في الصراع بين الغرب وموسكو” ، وشرح الوزير بنفسه رحلته بآفاق المنطقة في السياسة العالمية ، والتي كتب عنها في مقال بعنوان “روسيا وأفريقيا: شراكة تتطلع إلى المستقبل” ، نشر عشية الرحلة في وسائل الإعلام الأفريقية ، وأصبح القتال في أوكرانيا وأزمة الغذاء العالمية من الموضوعات الرئيسية للمناقشة ، إلى جانب النزاعات في الشرق الأوسط والعلاقات الثنائية ، وقال لافروف ” نحن لا نطالب برفع العقوبات ، فهذه مشكلة تستحق اهتماما خاصا ، وسنقوم الآن ببساطة بتطوير اقتصادنا ، بالاعتماد على شركاء موثوق بهم ، وليس على أولئك الذين أثبتوا مرة أخرى عدم قدرتهم الكاملة على التفاوض ، ولكن فيما يتعلق بالطعام ، هنا ، إذا اعتبر زملاؤنا الغربيون الوضع الحالي قريبًا جدًا من قلوبهم ، فيجب عليهم إزالة العقبات التي خلقوها بأنفسهم” .
جولة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الى افريقيا، هي حصيلة الاتجاه الأفريقي الذي بدأ في الصعود في أولويات السياسة الخارجية لروسيا بعد 2015-2016 – وعلى خلفية العقوبات والحاجة إلى تنويع الصادرات والواردات ، ففي التسعينيات ، وبعد انهيار الاتحاد ، انهارت العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إفريقيا ، وبدأت إفريقيا بنجاح في البحث عن شركاء “آخرين ” ، الآن ، وعلى المستوى الرسمي ، قرروا استعادة العلاقات التي كانت شبه مهجورة لمدة 20 عامًا ، فقد عملت روسيا في الآونة الأخيرة على تعزيز هذه العلاقة من جديد ، وسعت في السنوات الأخيرة ، أيضًا على تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية ، ففي عام 2018 ، قام الوزير لافروف بالفعل بجولة في البلدان الأفريقية شملت أنغولا وناميبيا وموزمبيق وزيمبابوي وإثيوبيا ، وفي يونيو2019 ، عقدت القمة الروسية الأفريقية في سوتشي ، ومن المقرر عقد نفس الحدث في عام 2023 وسيعقد في سان بطرسبرغ ، ، وفي مقالته الرئيسية ، يشير الوزير لافروف إلى “علاقات الصداقة والتعاون التي أثبتت جدواها” بين روسيا والقارة ، مشيرًا إلى أن “تطوير شراكة شاملة مع الدول الأفريقية يظل من بين الأولويات المهمة لسياسة روسيا الخارجية” ، وخلال الجولة ، أكد الوزير مرارا على العلاقات الودية التقليدية بين البلدين.