لملم أشتات روحه واستعد لطي صفحة الحب المتأخر الذي جاء على غير موعد،،ومن غير تخطيط،،كما اعتاد ان يأتي كل مرة تحمل سحابته البيضاء مطر الأشواق،،،لكنها كانت سحابة مسرعة الرحيل،،على الرغم من تثاقلها بالوعود الجميلة،،،كانت الأيام الأخيرة جحيما يشبه الاحتضار،،وحالة صدمة يصعب التعايش معها حتى باعتى حالات الصبر وأسلحته،،
يوم أخبره احد الصحب بموضوع الشطر الإجباري للمؤسسة التي يعمل فيها منذ ان فتح عينيه على الدنيا،،وكأنه مسجل في صفحة ولادات المكان ،،ففيها كبر وكبرت الأحزان والأفراح على حد سواء،،فيها عاش زهرة أيام الشباب،،وخطا خطواته الأولى على أعتاب أربعينه التي تحولت الى ما يشبه حديقة سرية للأحلام ،،لم يكن الارتباط الروحي بالمكان حالة زمنية فرضتها عشرون سنة وحسب بل لان نهر العمر الذي جرى في تضاريس تلك الحالة تصالح أخيرا مع ضفافه التي جفتها الأمواج في سنواته الاخيرة،،تلك التي حملت رياحها وجوها وأرواحا من شتى التفاصيل والأمزجة،،
فجأة شتت تزمته الطبيعي إزاء كينونة جديدة،،غريبة،،متوحشة للمكان نبتت على غفلة من الأحزان نبتة رقيقة في موات ارض الروح،،جذر صغير كما تسميه يشده الى المكان بعد ان تيبست تلكم الجذور الهرمة بفعل تآكل الحياة في نسغها،،
ولهذا كانت الفاجعة أسوأ من تغير مكاني مفروض بدا انه انقلب فيه على كل وعوده الكاذبة بالرحيل ،،تلك التي كان يطلقها في لحظات الغضب،،وكم بدت تلك حماقات كبرى وجرائم لا تغتفر بحق الروح التي تعيش وجع الانسلاخ القسري عن عادات سكنت تفاصيل الأيام،،اولها تلك اللحظات التي تجمعه،،،، بها،،وهي التي تبدت حلما مستحيلا بات وشيك التحقق لولا حسابات الوهم التي اعتادت ان تلبد سماء الروح المثقلة بالخيبات،،
هو الذي كان أشبه بفارس مهزوم انهكته الخسائر،،يهرب خلسة الى صمت الانزواء،،كمن يسير على أصابع قدميه متسللا الى زوايا الوحشة،،وهي كانت مناسبة للفرح المنتظرة في تتابع التقاويم،،كزهرة برية لم تدنس تفردها وحشية الحدائق ولم تعرف الاصص البلهاء الطريق الى حبسها يوما وتفرض عليها إقامة جبرية في غربة الأماكن،،،وهكذا ولد ربيع جديد ضاربا بكل مواعيد الفصول ودورة الأرض من رحم الصدف التي يجيد الزمن تكويرها،،فكانت كلمة عابرة بالافتقاد جسرا الى عالم مسحور ما ظن انه سيعبر اليه يوما،،وولد الحب كلمات خجلى خلف أستار الحوارات،،ومعان تتسلل خجلى خلف أستار النظرات،،
و بما خبر من عذابات ومعارك جانبية خاسرة وانتصارات آنية ترضي غرور الساعات التي نحتاج فيها لشيء من غرور الانتصار في وجه الزمن المعتاد على إذلالنا دوما ،،،،كان يعرف ان شيئا ما يمكن ان يحدث ،،شيئا ما سيبدد فرحته الطفولية بها،،وكان قرار الشطر الإجباري سكينا في ذاكرة الطعنات،،
في ساعات التشتت يصعب اللجوء الى ارض محايدة،،وكذلك كانت أيامه الاخيرة تهرب من خرائط المواجهات،،احتار كيف يخبرها بالامر،،هل يخبرها ام يتركها على ضفاف المواعيد تنتظر موعدهما اليومي الذي رتبته الصدف،،قرر ان يبعث لها برسالة يستكشف فيها ردة فعلها،،وما ان كانت تعرف،،وبعد تردد ارسل يسال عن أحوالها،،وفهم من ردها أنها لم تعرف بالامر،،حتى تجرأ وأخبرها،،لحظتها بدا وكأن ريحا عاتية بعثرت أوراق المواعيد،،
مرت قبل ان يلتقيها أربعة أيام بأربعين سنة،،شعر بتفاهة أقسى أوجاعه التي حاول إقناع نفسه أنها آلمته حقاً،،أربعون كاربعينه التي عاشها تائها بين موانيء طارئة ما أوحت له بالاستقرار يوما،،وكم كانت عصيبة لحظة اللقاء الذي يفترض انه ،،الأخير،،قال بتردد،،
– اليوم سيكون اخر أيامي هنا،،لن احضر،،على الأقل،،
عند تلك اللحظة تقاطع الزمن عند العينين اللتين كتبتا فصل العمر المفقود الذي عثر عليه اخيرا بعد عقود من حماقات العيش اللامجدي في اعمار الجميلات اللاتي توهم أنه أحبهن يوما،،تلك النظرة الابلغ من كل اعترافات المحبين على كراسي الحقائق
،،الزلزال الذي هد اخر عواميد الصبر التي جعلته يبدو متماسكا أمامها كل تلك الشهور،،تجرا أخيرا على تثبيت خط بصره في طريق تلك النظرة التي تمنى ان يقطع عليها طريق المراوغة التي أتت به أخيرا الى طريق الطاعة،،حين يأمرك قدرك وتستجيب،،طائعا،،مستسلما لاعذب خصم ،،لها،،بكل استحالات الا تكون هي الخصم والحكم،،بعد ان ظلت تسكن تلك الضفة البعيدة كأنها ترقب لحظة التدخل المناسبة لتعلن نفسها ملكة التيه المسمى قلبه،،،
لاحقا في تلك الظهيرة القاتلة حين استعاد تلك النظرة الخرافية امتزجت في قلبه الأحزان بشيء من الفرح،،فرغم انه متأكد من أنها تبادله المشاعر،،الا انه ظل مصرا بحماقة على البحث عن أدلة تثبت جريمة العشق،،
لم يكن يعرف الخطوة اللاحقة،،فكر بألف حل مستحيل،،وعزم على التخلي عن خطوطه الدفاعية والخروج الى ارض المواجهة،،حتى لو كان الثمن التنازل الصعب عن مبدأ مقدس اسمه،،كرامتي لا تسمح لي،،واقنع نفسه أنها لحظة الحقيقة،،وهاهي فكرة التضحية الحقيقية التي يؤمن بها ،،تلك التي تعلمها من كل قصص العشق التي قراها ،،وكتبها،،
وحين وضعه سعيه لالغاء الموضوع بمواجهة مديرزالمؤسسة الرجل المهم القاسي الذي يحترف إذلال الاخرين تردد في اختيار البداية التي سيمهد بها لطلبه بالبقاء،،حتى وجد لسانه يتصرف على هواه،،غير خاضع لسلطان الاختيار الإرادي للمفردات،،لم يقل أستاذ،،او يقدم بالألقاب او التحايا،،وضع جرحه امام جبروت الرجل،،وقال،،
-هل تعرف كم سنة عشت في ذلك المكان،،وكم قصة حب نسجتها مع كل قطعة حجر فيه،،؟؟؟؟لا أظن سيدي العزيز،،جرب ان تحب مكانا ،،تصوره امرأة زمنك التي لن تعشق غيرها،،انا احب ،،،ذلك المكان،،سأموت ان خرجت منه،،
وكان الرد،،لا متوقعا،،يمكن في الحقيقة ان يفرح به اي شخص اخر،،بالأصح،،اي شخص يعيش خارج أسوار حالة حب كالتي يسكنها او تسكنه بالأصح،،
-نحن نحتاج اليك هنا ،،نستفيد من خبرتك وقدراتك،،انت عبقري مدفون في ذلك المكان،،اشعر ان مكانك هنا،،لتعبر فيه عن قدراتك الحقيقية،،،
بدا انه لم يستمع لكلمة مما قالها الرجل،،حتى قاطعه،،وهو على عتبة التوسل،،حتى استأنف كلامه،،
-حسنا يمكن ان نرضيك،،وترضينا،،نفيدك وتفيدنا ،،
-كيف،،!!!
– نوزع دوامك بين الفرعين،،وهو افضل ما عندي لك،،ما رأيك،،؟؟؟
بدا الاقتراح غير المتوقع نقطة ضوء في جدار يأسه الذي افترسه طوال الأيام الماضية،،وطلب منه الندير ان يملا انموذج الطلب عند السكرتيرة،،وافق على الفور،،خرج من عند الرجل تتراقص خطاه بفرح طفولي ،،التقى في طريق مغادرته لمكتب المدير رجلا يعرفه من زمن طويل ولبى رغبة غريبة في احتضان العالم،،فأخذ الرجل بالأحضان ،،وأُخِذ الأخير على حين غرة مندهشا،،وكاد لولا ان أمسك نفسه ان يكررها مع السكرتيرة التي توجهت اليه بالسؤال ان يملأ الاستمارة،،عاد في تلك الظهيرة وكأنه مولود للتو،،صفحة بيضاء ناصعة تتنكر لأحزانها التي يخفيها الفرح ،،لم ينم،،لم يأكل،،لم يجلس لخمسة دقائق متتالية،،مترعا بالفرح،،عطٍِشا اليه،،كانه لم يعرفه يوما،،كم بدا ضئيلا ذلك العمر الذي مر شريط متاعبه بسرعة أمامه،،
لاحقا تبدد فصل الفرح شيئا فشيئا،،وتمت الإجراءات في الأيام اللاحقة ببطء،،افقده توازنه في بعض الأحيان،،بل انه كاد يفقد الامل ودخل في نوبة يأس حين اخبره احد الزملاء ان مدير الفرع عقد الامور وقد لا يتم انتقال او استبدال او تنسيب اي موظف،،انهار على اثر ذلك وتدهورت صحته ،،وامام ما قد ينكشف من امره امام زملائه في مكانه الجديد ارهق نفسه بالعمل،،وزاد من سوء حالته الصحية،،حتى جاء ذات صباح مثقلا باوجاع ليلة من ليالي الانتظار لما قد لا يأتي وفتح باب غرفة مكتبه بتكاسل،،،وجلس متهالكا على كرسيه ورفع أوراق البريد التي اعتاد ان يجدها خلال الأيام التي واظب فيها على عمله في مكانه الجديد،،لمح اسمه على ما بدا جدولا،،وكانت لحظة لا توصف تلك التي وجد فيها أمر إعادته الى الفرع الأصلي،،كأنما كان أمرا بإعادته الى قائمة الأحياء بعد حكم بالموت ظن لفرط يأسه انه آت لا محالة،،أخذ نفسا عميقا،،وتريث في إشهار حالة الفرح التي يخشى الا تكون حقيقية،،أعاد النظر الى أمر إعادته مرة واثنتين ثم رفع من غير وعي هاتفه النقال وطبع ثلاث كلمات وحسب في رسالة نصية ،،ارسلها لمستلم اسمه،،هي،،بكل تفاصيل الإيماء الكامنة خلف انفصال ضمير يكسر حدود المسمى،،ثلاث كلمات وحسب،،،عادت،،القلوب،،المهاجرة،،